ومن تأمل هذه المعطيات السابقة ورأى التمجيد والتبجيل والتقديس الذي يريقه هاشم صالح على هوامش أركون، وكيف يصف بالعبقرية كلاماً عادياً جداً لأركون، وكيف يتظاهر هاشم صالح بالدهشة من كلام أركون العادي الذي يعرفه هاشم صالح قبل أن يقوله أركون أصلاً، وكيف وقف نفسه على ترجمة كتب أركون، برغم أن هاشم صالح قارئ جاد وليس بحاجة “فكرية” إلى هذا الدور التبعي الذي يقوم به وراء أركون؛ من تأمل ذلك كله فإنه سيتذكر حتماً عبارة الدكتور بريش، وأن هاشم صالح ليس جاداً أبداً في هذا الثناء، وإنما يبحث عن حظوة الجهات التي تدعم أركون لا أقل ولا أكثر.
ويتردد السؤال بصيغة أخرى: هل أركون “مثقف” أم مجرد “مدير ثقافي” تستعمله المؤسسة السياسية الفرنسية لترويج الآيديولوجية الفرنكفونية؟ ليس لدي جواب حاسم عن هذه الإشكالية، لكنها مجرد تساؤلات ومؤشرات تعزز ملاحظة ذلك المفكر الفرنسي.
أعتقد أننا أطلنا في استعراض الظروف التي شكلت أفكار أركون، والدور الذي يلعبه في الساحة الفرنسية، دعنا نعود إلى مناقشة بعض المكونات الفكرية لكتابات أركون.
-دعوى ابتكار (الإسلاميات التطبيقية):
يكثر أركون من القول بأنه أول من نقد الاستشراق التقليدي بكونه لم يستفد من التطور في مناهج العلوم الإنسانية، وأن أركون لهذا الغرض سبك مفهوم (الإسلاميات التطبيقية) أي التي تطبِّق جميع مفاهيم العلوم الإنسانية، في مقابل (الاستشراق الكلاسيكي) الذي يستخدم مناهج تقليدية وخصوصاً الفيلولوجيا، أو المنهج الوصفي المحض فقط، ويُغرِق أركون في الثناء على نفسه بهذا الذي يراه منجزاً وسبقاً.
ويشير أركون كثيراً إلى الفرق بين الإسلاميات التطبيقية كما يقترحها، والاسلاميات الكلاسيكية كما يعمل عليها المستشرقون، كقول أركون مثلاً:
(من أجل أن نحدد مفهوم “الاسلاميات التطبيقية” فإنه من اللازم أن نذكر بالمساهمات التي قدمتها ماسنسميه “الاسلاميات الكلاسيكية”) [تاريخية الفكر العربي الإسلامي، أركون، 51].
ومن هذا التمدح الذي يكثر منه أركون قوله:
(دعوت إلى تجديد جذري لمنهجية الاستشراق الكلاسيكي، وإلى تطبيق أحدث مناهج العلوم الإنسانية على التراث العربي الإسلامي، ولكن لا سميع لمن تنادي، فزملائي المستشرقين لا يزالون مصرين على عدم الاكتراث) [قضايا في نقد العقل الديني، أركون، 82].
حسناً .. عبارة (الإسلاميات التطبيقية)،مصطلحاً ومضموناً، كلها مطروقة قبل أركون، ولم يأت بجديد، بل هوكلام مستهلك.
فأما عبارة (الإسلاميات التطبيقية) من حيث المصطلح، فهي كانت مجرد تطبيق مباشر لفكرة الفرنسي باستيد، وليس فيها أي ابتكار، فبعد أن أصدر الانثروبولجي الفرنسي باستيد كتابه الشهير (الانثروبولوجيا التطبيقية) عام 1971 كتب أركون بعده مقالة بعنوان (في الاسلاميات التطبيقية) عام1976.
يشير الدكتور واردينبيرج -المتخصص في الإسلاميات- إلى ذلك، ويلمح إلى أن هذا المفهوم تحصيل حاصل، فيقول:
(أركون ربما سبك تعبير “الإسلاميات التطبيقية” بالقياس إلى تعبير “الانثروبولوجيا التطبيقية”، والتي كان الانثروبولوجي الفرنسي روجر باستيد أنتجها. بطريقةٍ ما، كل الاسلاميات، التي ليست أكاديمية نظرية، تشكل نوعاً من المعرفة “التطبيقية”، علاوةً على ذلك حتى المعرفة النظرية تلعب دوراً في المجتمع، وفي العلاقة بين الناس من مجتمعات مختلفة)
[ J. Waardenburg, Islam: historical, social, and political perspectives, p. 156 ]
ويقول الدكتور كريستين –محاضر الدراسات الإسلامية في كلية الملك في لندن- في بحثه عن الإسلام والتهجين الثقافي حين تعرض لأركون:
(برنامج “الإسلاميات التطبيقية” تم طرحه أولاً في عام 1973، ثم استفاض فيه أركون في مقالة بعنوان “لأجل إسلاميات تطبيقية” عام 1984. بينما كان هذا اللقب مأخوذاً من روجر باستيد “الانثروبولوجيا التطبيقية” عام 1973، فإن البرنامج التصوري يعتمد على الاستعارة من نطاق واسع من منجزات العلوم الإنسانية الغربية في القرن العشرين).
[ C. Kersten, Islam, cultural hybridity and cosmopolitanism, JIGS]
¥