وهنا يمكن للسائل أن يسأل: ألا يمكن التواضع على ضوابط تحقق خلود النص، بتعدد معناه، دون انتهاك حرمته واندثار حكمه ومقصده؟
هذا السؤال يقود مباشرة إلى جدلية العلاقة بين النص والمقصد والواقع التي تطرح تحديا أمام القارئ الذي يريد فهم النص من غير إضرار بأحد هذه العناصر الثلاثة. وهذا يجر إلى نقطة محورية في هيرمينوطيقا جادمير وهي التحام أفق القارئ بأفق النص. وهذه النقطة يمكن التعبير عنها بحاجات القارئ ومقاصد النص. وقد تناول أهل المقاصد الشرعية هذه النقطة عبر محورين كبيرين هما: مقاصد المكلفين ومقاصد الشرع [18] ( http://tafsir.net/vb/#_ftn18). وخلاصة ذلك أن مقاصد المكلف لا تعتبر إذا ما خالفت مقاصد الشرع. والمقاصد إنما تعتبر إذا بنيت على وسائل صحيحة.
سادسا: ما يمكن استنتاجه من هيرمينوطيقا الارتياب، التي تسعى إلى تحطيم الأسطورة والأصنام وتجاوز كل فهم ساذج بغية الوصول إلى المعنى الحقيقي للعقيدة، هو الاضطراب الطويل الذي عرفته العقيدة المسيحية بسبب الانحراف الذي لحقها، خاصة عقيدة التثليث التي لم يستسغها كثير من مفكري الغرب قديما وحديثا، وكذلك عقيدة الصليب التي أدرجها بول ريكور ضمن الأسطورة ويقول عنها: "فإن الأسطورة تعد فضيحة إضافية تضاف إلى الفضيحة الحقيقية، إلى فضيحة "جنون الصليب"" [19] ( http://tafsir.net/vb/#_ftn19). وما ظهور الهيرمينوطيقا إلا خير معبر عن هذا الاضطراب. فقد كان هم مؤولي الكتاب المقدس هو انسجامه مع العقل وواقع البشر. فلا يكاد الفكر الديني الغربي يستقر على حال أو يؤمن بعقيدة، بل جعل كل جهده لنقد هذه العقيدة وكتابها المقدس، كما هو الحال لدى اسبينوزا.
إن المؤمن بالقرآن الكريم المعتقد بربانيته وقدسيته وصدقه لا يرى أثناء قراءته له أصناما ولا أساطير ولا خرافات ولا زيفا. بل إن القرآن نفسه يحكي هذا عن معاصري نزوله الذين لم يؤمنوا به وقالوا: "أساطير". فالإيمان بالقرآن ينافي وصفه بالأسطورة. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف ببعض التفسيرات الأسطورية التي أعطاها بعض المفسرين للنص القرآني بسبب قصور عقلي وعلمي وواقعي؛ ذلك أن الظروف آنذاك لم تكن تسعف إلا بذلك. وهنا تبدو مهمة المعاصرين أساسا في إعطاء معنى جديد يساير ما وصل إليه العقل الإنساني وتطورات حياته من غير مساس بالجانب الغيبي للنص القرآني المطلوب الإيمان به.
وخلاصة القول: إن وظيفة الهيرمينوطيقا تكمن في عبور الفجوة التاريخية ما لم تتجاوز الضوابط التي سبقت الإشارة إليها أعلاه. وعليه تكون وظيفة قارئ القرآن اليوم:
- البحث في معاني السابقين وتفسيراتهم وأفهامهم ومدى صلاحيتها اليوم.
- البحث عن معان جديدة، تتجاوز أفهام السابقين، تحقق للنص خلوده من غير مساس بقدسيته وأحكامه ومقاصده.
وهذا يقتضي:
- التزود بفنون اللغة.
- إدراك مقاصد القرآن وأسباب نزوله.
- فقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ، ويدخل هنا جميع مكونات هذا الواقع وبكل علومه ومخترعاته.
والله أعلم.
[1] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref1) - ديفيد كوزنز هوى، الحلقة النقدية .. الأدب والتاريخ والهيرمينوطيقا الفلسفية، ترجمة وتقديم خالدة حامد، (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2005)، ص 13
[2] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref2) - Kelkel, Arion Lothar, ‘La légende de l’Etre, langage et poésie chez Martin Heidegger’ (Librairie philosophique, Jean Vrin, Paris, 1980), p 186.
[3] (http://tafsir.net/vb/#_ftnref3) - هانس جورج جادمير، فلسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، (منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم بيروت، والمركز الثقافي العربي البيضاء ط2، 2006)، ص 63.
[4] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref4) - حسن حنفي، تأويل الظاهريات الحالة الراهنة للمنهج الظاهراتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، (مكتبة النافذة، ط1، 2006)، ص 384
[5] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref5) - جادمير، فلسفة التأويل ص 84.
[6] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref6) - ينظر حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، (دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان ط1، 2004)، ص 37.
[7] ( http://tafsir.net/vb/#_ftnref7) - جادمير، فلسفة التأويل ص 64.
¥