تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يقول ريكور عن أبطال الشك الثلاثة وثاقبي الأقنعة: "فما يريده ماركس، هو تحرير التطبيق العملي عن طريق معرفة الضرورة. ولكن هذا التحرير لا ينفصل عن "امتلاك الوعي" الذي يرد بانتصار على خداع الوعي الزائف. وما يريده نيتشه هو زيادة قدرة الإنسان، وإنشاء قوته. ولكن ما يريده بقوله إرادة القوة يجب أن يغطيه تأمل بأرقام "الإنسان الأعلى"، و"العود الأبدي"، و"اليونيسوس". وهذه أمور من غيرها لن تكون القوة سوى العنف من جانب الانحطاط. وأما ما يريده فرويد، فهو أن المحلَّل، إذ يتبنى المعنى الذي كان غريبا عنه، فإنه يوسع حقل وعيه ويحيا بصورة أفضل، وإنه ليكون أخيرا أكثر حرية، وإذا أمكن أكثر سعادة" [16] ( http://tafsir.net/vb/#_ftn16).

إن هيرمينوطيقا الارتياب تحاول الإبقاء على الطابعين العلمي والفني للتأويل من غير إفراد أحدهما بمنزلة دون الآخر. والتفاعل مع النص في نظر ريكور ينشد إيمانا استعاريا يتجاوز الطابع الأسطوري ويتجاوز تحطيم الأصنام.

2 - بعد هذا العرض الموجز، هل يمكن تطبيق الهيرمينوطيقا على القرآن الكريم؟

أولا: لقد جعل شلايرماخر الهيرمينوطيقا في تأويل لغوي قواعدي جنبا إلى جنب مع تأويل نفسي. وإذا كان أمر الجانب الأول محسوما لا يمكن الاختلاف حوله، فإن أمر الجانب الثاني، وهو التأويل النفسي، بما يرمي إليه من إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف، لا يمكن تقبله من قبل من يؤمن بربانية نص مقدس سماوي، والمقصود هنا القرآن الكريم. نعم، قد يقبل هنا السياق العام للنص ومقاصده وأسباب نزوله، فإن ذلك من شأنه أن يضيء جوانب الفهم فيه.

ثانيا: أما بخصوص تصوره حول ضرورة الفهم في ضوء معناه العام وسياقه الكلي، أو فهم الجزئي في ضوء الكلي فهو أمر مطلوب ومحمود، بل مهم جدا بخصوص فهم نص سماوي، قال به الأصوليون في الفكر الإسلامي منهم الإمام الشاطبي رحمه الله الذي يقول: "وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليّه فقد أخطأ، وكما أن من أخذها لجزئي معرضا عن كليّه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه" [17] ( http://tafsir.net/vb/#_ftn17).

ثالثا: أما تصور دلتاي حول الفهم فلا يمكن توظيفه في فهم القرآن، لأن القرآن لا يعرض تجربة، بل هو كتاب هداية وأحكام وقانون للبشر، باستثناء ما يعرض من قصص الأنبياء والأقوام السابقين. من هنا لا مجال للحديث عن تجربة النص.

رابعا: رأينا أن الأحكام المسبقة عند جادمير شرط للفهم، وهذا يطرح سؤالا مهما وهو: من أين يكتسب القارئ أحكامه المسبقة؟ من التراث؟ وكيف يكون الأمر عندما يكون القارئ بإزاء التراث نفسه؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالقرآن، من أين يستقي القارئ أحكامه المسبقة؟ لا يعثر الباحث عن إجابة.

إن الاجتهاد في معرفة مصدر الأحكام المسبقة أمر ضروري لقارئ يريد فهم النص القرآني، وربما تبدو هنا سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسنته، وسيرة جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام، والأقوام السابقين، وكذلك التاريخ وواقع الإنسان القارئ، أهم ما يشكل أحكامه المسبقة لارتباطها بالنص المدروس.

خامسا: ويذهب جادمير إلى أن كل تفسير للنص فهو تفسير صحيح، أو كل قراءة له تعتبر صحيحة، وهذا أمر على جانب كبير من الصواب، وفي سير النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الشواهد على ذلك، كما في قوله: "لا يصلين حدكم العصر إلا في بني قريضة". من الصحابة من فهم الحديث على حرفيته فلم يصل العصر إلا في بني قريضة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث على أنه حث على السرعة فصلى العصر حيثما أدركته، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام الفريقين.

لكن القول بإطلاق تعدد المعنى وتطوره وعدم ثباته، وإن كان يحقق خلود النص عند تباعد الزمان واختلاف المكان، فإنه يهدد الحكم الذي جاء به النص، وقد يصل الأمر عند تقادم الزمان إلى نقيض الحكم والمقصد. وفي واقع الفكر الإسلامي كثير من الشواهد على ذلك.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير