فهل دعاة المحافظة على علم الأصول نقيا من شوائب الفكر الاعتزالي لديهم ما يرفع التحدي عاليا في وجه كل متهور, إذ ما جاء الفكر الأصولي إلا ليكون السد المنيع في وجه دعاة الانحلال والتحلل من القيم ـ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون دافعه الغيرة- وإبطال حجج الخصم كما يفعل كل مغلوب؟ لنفسح المجال لمصطفى ملكيان ليعرب عن رأيه في الموضوع: " يمكن النظر للقرآن بمنظار هرمينوطيقي كأي كتاب آخر وكأي نص منطوق أو مكتوب. بيد أن للسؤال برأيي جزءا آخر: هل بالإمكان تطبيق هذه النظرة الهرمينوطيقية على القرآن أيضا أم لا؟ أو إلى أي مدى يمكن تطبيقها على القرآن؟ أعتقد أن كثيرا مما في الهرمينوطيقا من الميسور تطبيقه على القرآن, إلا أن القرآن يختلف عن سواه من الكتب الدينية وغير الدينية اختلافين أساسين:
الأول: أن جميع الألفاظ وعبارات القرآن من إنشاء وقول الله تعالى, وهذا ما لم يزعم لأي كتاب غيره على الإطلاق، ومن يؤمن بسماوية القرآن يرى بوناً شاسعا بينه وبين باقي الكتب.
الثاني: أن الترتيب الحالي لمحتويات القرآن لا يمثل ترتيب التنزيل وتسلسله التاريخي.
هاتان السمتان تدعوان إلى التريث في تطبيق قواعد الهرمينوطيقا على هذا الكتاب, فجميع القواعد الهرمينوطيقا التي تطبق على النصوص المكتوبة والمنطوقة, تشترك على الأقل في كونها لا تطبق على نصوص لها الميزتان المذكورتان للقرآن" (مجلة قضايا إسلامية، مقال لمصطفى مليكان تحت عنوان: تساؤلات العقل الحديث،121 - 122)
ويضيف القول: "الكثير مما سجله علماء الأصول في مباحث الألفاظ يرفضه الهرمينوطيقيون اليوم, وعليه نحتاج إلى إعادة النظر في هذه المسائل وقد لا تنتهي إعادة النظر إلى نفس النتائج التي خلص إليها الأصوليون ولا أقول إنها تتعارض معها أو تنسفها بالضرورة ولكن إعادة النظر ممارسة مهمة ونافعة على أية حال" (المصدر السابق ص 122)
إنها شهادة شاهد من أهلها فكيف بمن يدعون إلى إدخال علم الهرمينوطيقا في علم أصول الفقه؟ فكيف يستوي هذا القول وكيف يستقيم؟
إن من يدرس كتاب الخطيب الإسكافي " درة التنزيل وغُرَّة التأويل"، و"مشكل القرآن" و"مختلف الحديث" لابن قتيبة، وكتاب "حجج القرآن" لأحمد بن محمد الرازي، وجل كتب الحجج والجدل عند الفقهاء ليقف وقفة إعجاب لما أفاء الله عليهم من فهم خاص، كما أن من يتعامل مع كتب الحكيم الترمذي يدرك ما خصه الله به من سعة الفهم والإدراك مما لم يحط به غيره، ودعنا مما ميز الله به ابن عربي الحاتمي في فتوحاته المكية, هذا فضلا عن كتب الدراسات المقارنة بصرف النظر عن جدل المتكلمين.
ولئن ساقت هذه السطور المحاولة لإبعاد علم المصطلح وعلم الهرمينوطيقا عن مجال علم الأصول، فهل من بديل والحاجة تعوزنا لاستخلاص الوحدة الموضوعية والنسقية الفكرية للعلوم الشرعية؟
نعم إنه سبيل العكوف بباب الله ليستهدي المرء ويبلغ مراده: إنها الربانية التي من خلالها ستنكشف الحقائق جالية واضحة, لا لبس فيها ولا غموض, ولا مسايرة فيها للآراء المخطئة, ولا تداهن العاطفة المجنحة, ولا تماري أحدا, إذ تنبثق من قوانين ربانية صارمة لا تحابي أحدا, فضوابطها كلية شاملة لا نسبية فيها.
فهل بعد تسليط الأضواء على السنن الإلهية و قوانينها, ينسحب دعاة الهرمينوطيقا و تكون لهم الشجاعة ليعترفوا بانهزام النسبي أمام الكلي, ويعتبر دعاة الفلسفة الوجودية بخطأ مبدئها؟ أم يتمادون في جرأتهم ووقاحتهم؟ وقديما قيل: إن لم تستح فاصنع ما شئت.
إن السنن الإلهية حجة الله على خلقه من مؤمن وكافر.