أستطيع أن أذكر لك عشرات الآيات التي تبين حقوق الفقراء في أموال الأغنياء, ويستطيع إنسان آخر أن يثبت لي العكس, ويبين أن القرآن فيه حرية التجارة, وأن التجارة والربح والخسارة إحدى الصور التي يستعملها القرآن الكريم للإقناع وللبرهان على الحياة الأخروية:
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة الصف، الآية 10.
فالتجارة شيء محبّب
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} سورة الجمعة, الآية: 10.
فأي القراءتين أصح؟
كلتاهما تقوم على منهج الاجتزاء, فالقراءة هي قراءة انتقائية, وأنا أثبت أن القرآن فيه جوانب من العدالة الاشتراكية؛ لأنني صاحب موقف تجاه عصري, لأن عصري يطغى فيه التفاوت الشاسع بين الأغنياء والفقراء, فأنا بما أنني مصلح اجتماعي أريد أن أحقق العدالة الاجتماعية, فأقرأ القرآن من هذا المنظور.
بينما إنسان آخر في الخليج, ولأن عوائد النفط بالملايين, ويريد أن يستثمرها, ومستوى الدخل مرتفع جدا وليس هناك فقراء, لذلك تجد عوائد النفط مكدسة في البنوك الأجنبية في الخارج, ويحاولون هناك أن يدللوا على حرية التجارة, فما دام الإنسان يزكي, ويعطي زكاة المال ويتصدق على الفقراء, إذن هذا يكفي؛ لأنه كان من الصحابة من الأغنياء, كعثمان بن عفان, وكان منهم من الفقراء أبو هريرة وأبو ذر, وكان لا أحد يعيب على الآخر.
ومن ثم القراءة هي وجهة نظر, طبقا لوضع المفسر في العالم, ودوره الاجتماعي, وعلى هذا تتعدد القراءات, لا يوجد صواب وخطأ, كلتاهما قراءة, القراءات متعددة, فإذا ما تصارعت قراءة إسلامية وقراءة اشتراكية، فإن هذا التصارع ليس في النص ولكن في المواقف الاجتماعية, أنا بوعي الاجتماعي أنتمي إلى الطبقات الفقيرة, وأدافع عن الفقراء, وآخر بوعيه الاجتماعي ينتمي إلى الطبقات الغنية, فأنا أعطي للنص تفسيرا اشتراكيا, وهو يعطي تفسيرا رأسماليا, إذا تصادمنا, وكل منا يدعي أنه على حق والآخر على باطل فإنه في الحقيقة لا يوجد معيار للصواب والخطأ داخل النص, ولكن في المواقف الاجتماعية في الخارج, لذلك أقول يوجد يسار إسلامي ويمين إسلامي ووسط إسلامي, فاليسار الإسلامي هو صاحب المواقف الاجتماعية أولا, ثم يؤول النص من أجل تدعيم مواقفه الاجتماعية, واليمين الإسلامي هو صاحب المواقف الاجتماعية التي لا تدافع عن الفقراء, ولا تعتبر جريمة, ما دام الإنسان يدفع الزكاة.
ويقرأ النص بهذا المنظور, فالخلاف ليس في النص, وإنما في مناهج التأويل, فكل قراءة هي اجتزاء, كل قراءة هي خيانة للكل, لأنها ترد الكل إلى أحد أجزائه, والصراع هو صراع اجتماعي, أنا باعتباري أنتمي بوعي إلى الطبقات الفقيرة, والآخر باعتباره ينتمي بوعيه إلى الطبقات الغنية, كلانا في موقفين اجتماعيين متصارعين.
فتنوع مناهج التفسير واختلاف المفسرين ليس السبب فيها يرجع إلى النص ولكن لاختلاف المواقف الاجتماعية.
أما كيف يمكن التوفيق بين وحدة الأمة وتعدد القراءات؟ فإن وحدة الأمة لا تعني وحدة الفكر, ذلك أن حق الاختلاف حق شرعي, والله خلقنا مختلفين, شعوبا وقبائل لنتعارف.
من هنا تتنوع أساليب التفسير, فهناك التفسير بالمعقول, التفسير بالمأثور, التفسير بالرواية, التفسير بالدراية, التفسير باللغة, التفسير من منظور التصوف, ولذلك تعددت التفسيرات, فهناك التفسيرات العقائدية, والتفسيرات التاريخية كتفسير الطبري, والتفسيرات الاجتماعية كالمنار، وتفسيرات أدبية جمالية كتفسير القرآن لسيد قطب, فاختلافات التفسير هي اختلاف في المواقف الاجتماعية والسياسية, اختلاف في المنظور, وهذا لا يتنافى مع وحدة الأمة الممثلة في وحدة النص, هناك وحدة النص وهو القرآن الكريم, ثم تعدد القراءات طبقا لتنوع المنظور الشخصي للمفسر ومرجعياته ". (مجلة قضايا إسلامية معاصرة, مقال لحسن حنفي تحت عنوان الهرمينوطيقا وعلوم التأويل، ص: 103 - 106.)
¥