الموقف الثاني: الغلاة في التجديد، وهم الذين يريدون أن ينسفوا كل قديم وإن كان هو أساس هوية المجتمع، وهؤلاء في الحقيقة مبددون لا مجددون، وهم يكتبون تارة باسم التجديد الأصولي، وتارة بتجديد الفكر الإسلامي ([23]).
الموقف الثالث: المتوسطون في التجديد، وهم الذين يرفضون جمود الأوليين وجحود الآخرين.
وهنا لا بد أن نفرق بين ما يبديه الذين يدعون إلى التجديد الذي يظهر أنه امتداد للجهد الذي بذله علماء المسلمين منذ قيامهم بواجب الاجتهاد والإفتاء، وبناء صرح الفقه الإسلامي، وبين الذين يدعون إلى هدم الإسلام، وطمس معالمه، وقد بان لك فيما سبق أنهم متصفون بأسوأ من ذلك ([24]).
وهؤلاء المتوسطون اختلفوا في الضوابط الشرعية للتجديد، كما اختلفوا في التعاطي معها، منهم من توسع حتى كاد يصل إلى الغلاة، ومنهم من ضيّق حتى كاد يغلق الباب.
"وجملة القول أن التجديد في علم الأصول ضرورة دينية، وأن الدعوة إلى هذا التجديد تنطلق من مبدأ صلاحية التشريع الدائم للتطبيق، وأن هذه الدعوة لا تعني خروجاً على كل ما كتبه السلف في هذا العلم، فمنه ما لا يقبل التطور، ومنه ما جاء عن نظر واجتهاد، ولا أحد يستطيع أن يدعي فرضية متابعة أي مجتهد في أمر أداه إليه اجتهاده فقط، فإن ذلك أقصى ما يقال فيه، إنه رأي، والرأي مشترك" ([25]).
التجديد متزامن مع التأليف:
وهنا أنبه القارئ على أن فكرة التجديد لعلم الأصول ليست وليدة الساعة، ولا مما أفرزته الثقافة الغربية فحسب، وإن كان لها أثر على بعض من يحمل لواءها. فإن من الأصوليين من كان يشير إلى ما يمكن أن نطلق عليه: تجديد الأصول، وإن كان المصطلح قد تطور وتَعَصْرَنَ، إلا أن أصل فكرة التجديد متفق عليها. فالشاطبي قد جدد وابتكر وغيره كذلك.
انظر مثلاً هذا القول وهو لفخر الأئمة منصور بن إسحاق السجستاني (ت:290هـ) - إن صح تاريخ الوفاة - يقول بعد كلام: ( .. فرغبت في جمع جمل من الفصول تقع بها الهداية والكفاية لطلبة الأصول، وطرحت منها الحواشي والفضول .. ) ([26]).
ويقول أبو الحسين البصري (ت:436هـ): (فأحببت أن أؤلف كتابا مرتبة أبوابه غير مكررة، وأعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأصول الفقه من دقيق الكلام. إذ كان ذلك من علم آخر، لا يجوز خلطه بهذا العلم .. ) ([27]).
ويقول السمعاني (ت:489هـ) أيضا في هذا المعنى: ( .. ورأيت بعضهم - أي الأصحاب - قد أوغل، وحلل، وداخل. غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل، وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه، بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير، ولا نقير ولا قطمير .. ) ([28]).
فهذه النقول تدلك على التزامن بين التأليف والتجديد في هذا العلم، وإن كان متباينا مع التجديد المعاصر، لكنه يؤيد أصل الفكرة.
مقترحات التجديد الأصولي:
مما أقترح تهذيبه وتفعيله في علم الأصول ما يلي:
أولاً: الرجوع التام إلى الأصول والمصادر التي تَكون منها هذا العلم، فتجديد علم الأصول لا يكون مثمرا إلا برجوعه لمصادره الأصلية، وانعتاقه مما خالطه من العلوم الأجنبية عنه، ومصادر أصول الفقه اثنان:
1 - الأدلة الشرعية بفهم السلف.
2 - اللغة العربية.
قال القرافي: (والحق أن مسائل أصول الفقه معلومة -كما قال التبريزي- بالاستقراء التام من اللغات .. ) ([29]). وما سوى ذلك من الفروع فهو مساعد لضبط الأصول لا ناتج لها.
ثانياً: تنقيح علم الأصول من فضول المسائل التي لا علاقة له بها ([30])، وذلك يكون بطريقين:
1 - بإفراد هذه المسائل عن العلم؛ مع ذكر السبب، وبيان أثرها على العلم ([31]).
2 - بتصفية قواعد علم الأصول التي لها أثر ظاهر في الاستنباط مع أدلتها وأمثلتها ([32]).
والفرق بين الأول والثاني: هو أن الأول إبراز المسائل الدخيلة في هذا العلم؛ ليعلمها المتلقي، والثاني تصفية وتنقيح المسائل الأصولية المثمرة عن غيرها؛ ليسهل الوصول إليها.
ثالثاً: تفعيل جانب التطبيق على جانب التنظير في الدراسات الأصولية، وهذا له عدة جوانب:
1 - ربط القواعد الأصولية بالأدلة، وذلك في محافل التدريس، والرسائل الجامعية ([33])، لبيان أصلها ومصدرها.
2 - الاهتمام بذكر الأمثلة الفقهية لكل قاعدة، لبيان ثمرتها وإنتاجها.
3 - الاهتمام بتطبيق القواعد الأصولية على النوازل الفقهية المعاصرة، وبيان فاعليتها.
¥