فإن القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً حسبوا ذا القرنين كغالب الملوك في الأرض فعرضوا عليه خرجا حتى يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً.
التناسب بين قصص السورة
وعوداً إلى محور الحفظ الذي أبرزته بداية السورة وخاتمتها والقصة التي بها سميت السورة، وحديث العصمة من الدجال، فالملاحظ أن هذا المعنى ينتظم أيضاً سائر قصص السورة الكريمة بدءاً من حفظ أصحاب الكهف، ثم حفظ الرجل المؤمن أن يفتن أمام صاحب الجنتين، ثم حفظ السفينة، فالوالدين المؤمنين، ثم كنز الغلامين اليتيمين، ثم حفظ القوم الذين كانوا لا يفقهون قولاً بإقامة الردم الذي يحميهم من عدوان يأجوج ومأجوج، وكذلك فالبقاء هو للصالحات، وهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ولا مبدل لكلمات الله من حيث اللفظ أو المعاني والسنن والقوانين.
إن قصة الكهف، التي سميت بها السورة، كانت كفصل أول في رواية، وتبعتها القصص الأخرى فصولاً تالية، أو هي ملخص وتفصيله ما بعده؛ فالسورة بدأت بما يشبه واقع المسلمين في مكة من المطاردة والاضطهاد، ثم أرادت تصبيرهم على ما هم فيه بطمأنتهم على أنفسهم وعلى دينهم، وبلفتهم إلى أن لله تعالى حكمة عظيمة في كل أمر، وأن الأمور ليست على ظاهرها دائما، والمطلوب تسليم الأمر لله تعالى، فإن الله تعالى سيرعاهم ويحفظهم حتى يتم نوره، ويصير حالهم إلى حال ذي القرنين فيفتحون المشارق والمغارب بالتوحيد، واسم ذي القرنين كما هو واضح، يوحي بمعاني القوة والغلبة، كأنها تؤكد لهم أنهم صائرون إلى مثل حال ذي القرنين، وهو ما أشار إليه أول السورة في قوله تعالى: ? الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه?؛ فالله تعالى أنزل هذا الكتاب على عبده (لينذر بأساً شديداً من لدنه)، والبأس الشديد يأتي من قوم أولي بأس شديد، في إشارة واضحة إلى ما سيصير إليه حال المؤمنين إلى القوة بعد الضعف، وإلى الأمن بعد الخوف، وإلى التمكين بعد التخطف والمطاردة، ولعل مما يفيده التعبير ب (من لدنه) أن ليس في واقع المؤمنين وقت نزول الآيات، ما يدل على قرب امتلاكهم ذلك البأس، وبالتالي فهو بأس (لدنّي)، يوقن المؤمنون بالغيب أنه آت، ويستبعده الذين لا يؤمنون إلا بما تلامسه حواسهم.
ولا يستبعد الكاتب أن الذين كانوا يسألون ويكررون السؤال عن ذي القرنين هم الصحابة الكرام في مكة ()، وسؤالهم هو سؤال المتعجل الذي يقول متى ينتهي اضطهادنا وننتصر بالدين كما حصل مع ذي القرنين؟ أو يريدون التسلي بأخبار العزة والنصر للتخفيف من الواقع الأليم، فجاءت السورة وقصصها بشكل عام تدعوهم إلى الصبر وعدم الاستعجال وتطمئنهم ?أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها ?، كما تحقق الوعد لفتية الكهف، وفي التعقيب على قصة الكهف جاء الأمر للرسول الكريم: ? واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. ?، وفي قصة موسى والعبد الصالح يخاطب الخضر موسى ?إنك لن تستطيع معي صبراً?، ويتكرر الصبر سبع مرات وبالذات في فواصل آيات القصة، والتي آخرها: ?ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً?، ثم يأتي بعدها خبر ذي القرنين كأنما ليوحي بأن التمكين يجب أن يسبقه صبر كثير، وأن مآل الصبر مع المؤمنين هو التمكين، وأن أشد ساعات الليل حلكة هي التي تسبق طلوع الفجر.
ثم جاءت قصة ذي القرنين "ذكراً"؛ ? سأتلو عليكم منه ذكرا ?، أي تذكيراً لهم بدورهم الرساليّ في نشر التوحيد وحماية الضعفاء، جهاداً في سبيل الله تعالى والمستضعفين، كيلا يكون كل همهم الخروج من الأزمة دون التفكير في المستقبل المطلوب، ومرة أخرى يأتي الحديث عن وعد الله، لكن على لسان ذي القرنين، مقترناً بالحديث عن الآخرة، فالمؤمن لا ينسى في كل أحواله أنه صائر إلى دار الجزاء، فيصبّره ذلك أيام الشدة، ويضبطه أيام العز والنصر فيمنع غروره وانحرافه، وقد قيل لبني إسرائيل من قبل: ? عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم من بعده فينظر كيف تعملون ?.
ومن التناسب بين قصص الكهف وقصص مريم تكرر الرحمة في قصص السورتين، لكن الملاحظ أن الرحمة في الكهف هي رحمة الحماية والمحافظة على المؤمنين والضعفاء، والرحمة في مريم هي الرحمة بالمعين على الدعوة والورثة الذين يأخذون الراية عمن سبقهم.
هو ما يلاحظ في الآيات التالية: ? إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة .. ? [الكهف: 10]، ? رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ? [الكهف: 82] كما قال الخضر لموسى مؤولاً أفعاله الغريبة بأنها رحمة بالمساكين أصحاب السفينة التي يلاحقها الملك القرصان، وبالوالدين اللذين قتل ابنهما كيلا يرهقهما طغياناً وكفراً، وباليتيمين إذ أقام الجدار ليحفظ لهما كنزهما، ومثل ذلك قول ذي القرنين للقوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً بعدما أقام ردما يمنع عنهم عدوان يأجوج ومأجوج: ? هذا رحمة من ربي ? [الكهف:98]. وأما الرحمة في مريم فهي رحمة أصفياء الله المذكورين بمن يعينهم على الدعوة: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، و (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً).
الكهف والجمعة والخلافة
في الحديث: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) ()، و (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) ().
إن يوم الجمعة هو يوم الخلافة، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: (خيريوم طلعت فيه الشمس: يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة) ()، فالخلق للخلافة والإخراج من الجنة لتسلم الخلافة.
إن سورة الكهف تبين للمؤمنين الوظيفة المنوطة بهم والدور المطلوب منهم، وهو القيام بواجب الخلافة وإعمار الأرض بشرع الله تعالى كما يبرز فيما قام به ذو القرنين من منع للفساد وزحف نحو المشارق والمغارب لإقامة العدل ونشر الخير، بعد أن ترينا مشهداً لملك قرصان لا يشبع حتى إنه ليلاحق المساكين في لقمة عيشهم.
ومن هنا يتبين لنا سر اجتماع المسلمين يوم الجمعة وسر خطبة الجمعة، ومن ثم سر قراءة الكهف في هذا اليوم العظيم.
¥