((ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) 36، ((وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) 37.
((وإلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ)) 38.
وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان شعيب وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام-، حتى أصبحت قاعدة عامة، قررها الله سبحانه وتعالى فقال: ((ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)) 39.
((ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) 40.
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام، وأخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب. ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل-رضي الله عنه-عندما بعثه إلى اليمن: ((إنك تأتى قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله وحده، وفي رواية: فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله، عز وجل، افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى، افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) 41. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل)) 42،43،ولا أريد الاسترسال في الكلام عن التوحيد وأقسامه،فهذا له موضعه، ولكن ما يسعنا قوله هنا عن ضرورة تشبع الفئة المسلمة التي تتحرك للتمكين لدين الله في الأرض بقضية التوحيد وأن تكون هذه القضية منطلق تحركها في المواجهة مع الشيطان وحزبه،ثم يتوجهوا بتلك الدعوي إلي الجماهير لملء الفراغ العقيدي لديهم وذلك أن أساس الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص لله (تعالى)، فهو الذي يرتقي بالإنسان المكان اللائق به، وهو الذي ينقذه من رق العبودية لغير الله، ويحرره من استعباد الإنسان، ومن استعباد الخرافة والأهواء، وهو الذي ينقذه من المحتالين الدجالين أحبار السوء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وإذا لم يتعبد الإنسان لله (تعالى) فسوف يقع في الوثنية - لا محالة - بشتى صورها وأشكالها؛ فإن الإنسان كما جاء في الحديث (حارثٌ وهمّام)، فلا بد أن يمتلئ بشيء، فإذا لم تكن العبودية لله فهي لغيره مهما تظاهر بأنه حر، فالعبودية هي عبودية القلب كما يقول ابن تيمية (رحمه الله)، فمن ركض وراء الشهوات فهو الأسير المملوك، ولو كان حاكماً يستعبد الناس.
التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي يجعل المسلم شخصية تستعصي على الطغيان، ولا تخضع للملأ أو المال، كما استعصى الصحابي الجليل بلال بن رباح حين قالها لملأ قريش: أحد أحد، والتوحيد هو الذي يحفظ الإنسان من الانفلات بلا قيد أو ضابط، كما حُفظت الأفلاك بالجاذبية.
التوحيد الخالص لله (تعالى) هو الذي أنقذ العرب من وهدة النسيان والخمول، وجعلهم أمة تحمل رسالة وتشعر بالمسؤولية، وتحول العربي إلى إنسان لا تأسره الأوهام والتقاليد، ولا القبيلة والعشيرة، ولا الإقليمية والقومية.
إن من أصعب الأشياء على الإنسان الذي يحب الفساد في الأرض أن يسمع كلمة التوحيد ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) 44 وكأنهم يقولون: كيف يكون إله واحد ينظر في أمر الجميع؟ ((وَإذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ... )) 45، وقد خشي فرعون من هذا التوحيد الذي جاء به موسى (عليه السلام) فقال: ((إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ... )) 46، والدين هنا يعني الحكم، وكأنه يقول: إن هذا النبي الذي جاء بالتوحيد خطير جدّاً؛ لأنه سيذهب بملككم وسيادتكم وطريقتكم في العيش. فلا مانع عند الطغاة أن يكون الدين حركة ثقافية أو حضارية تتكلم عن الزخرفة الإسلامية أو العمارة الإسلامية، وتذكر ما أنتجه العلماء القدامى في الطب، والهندسة، وعلم الفلك، ولا مانع من تشجيع الطرق الصوفية التي تربط الفرد بالشيخ والولي والأقطاب والأوتاد وما هنالك من خيالات وخرافات، لأن ذلك لا يضر بسلطان الطغاة في شئ.
إذا أردنا النهوض فلا بد أن نرتفع بمستوى الأمة كي تفهم وتمارس التوحيد الخالص، وحتى لا تكون قطيعاً يُنادى من مكان بعيد، وتكون أمة تقوم بواجباتها وتحمل الرسالة.47
وعلى العموم، فإن العلم بالعقيدة فريضة على كل مسلم، فضلاً عن كل داعية؛ لما لها من أهمية واعتبار في معرفة المنطلقات والثوابت وتحديد الأهداف والغايات، والتمييز بين الواقع المنحرف عن التوحيد والواقع الإيماني، وتأصيل المنهج الشرعي لئلا تنحرف الدعوة عن أهدافها المرسومة.
تلك هي الخطوط الكبرى لهذه العقيدة التي ركز عليها القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاماً، ووقف عندها لا يتجاوزها، وكانت غايته تقريرها في النفوس، بحيث تكون عقيدة إيجابية ثابتة مستقرة، قائمة على العلم والعمل، مبنية على الوعي والنظر والمعايشة.
يتبع إن شاء الله ...
*ثبت المراجع:-
* ملحوظة جميع الحقوق راجعة إلي حق الله عزوجل ولكن التقسيم لتسهيل الفهم وتبسيط المعني ...
36 - [المؤمنون:23].
37 - [الأعراف:65].
38 - [الأعراف:73].
39 - [الأنبياء:25].
40 - [النحل:36].
41 - [اخرجه الشيخان].
42 - [رواه الشيخان].
43 - التوحيد مفتاح دعوة الرسل للشيخ عثمان جمعة ضميرية.
44 - [ص: 5].
45 - [الزمر: 45].
46 - [غافر: 26].
47 - د. محمد العبدة (التوحيد أولاً وأخيراً) مجلة البيان عدد 102 صفر 1417هـ-يوليو 1996م بتصرف بسيط.
¥