** وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [10، 11].
أي: لا تخف مما ترى، فإني أريد أن أصطَفيك رسولا وأجعلك نبيًّا وجيهًا ([2]).
قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولًا بهذا القول ([3]).
ليكون الأمر بالرجوع إلى العصا بمقتضى الرسالة وبصفته «من المرسلين»؛ لأن الرجوع إلى العصا في حقيقته تجربة كاملة للعودة إلى فرعون.
وكذلك تكون العصا مع الدابة: فتجلو وجه المؤمن بالعصا.
وفي هذه الآية إشارة إلى إمكانية تغيير العمل وتبديل السوء بالحسنى وهو الأمر الدال على مغفرة الله ورحمته لنفهم أن ظهور الدابة وعدم الانتقال من الكفر إلى الإيمان بعدل الله وحكمته.
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [12، 13].
ومناسبة هذه الصيغة مع آية الدابة هي ذكر تحول عمل الإنسان من السوء إلى الحسن وهو الأمر الذي لن يكون بعد ظهور الدابة؛ حيث سيختم لكل إنسان بما عليه من العمل.
فالدابة تخطم أنف الكافر أي تسمه.
{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [14].
وعلامة الدابة تعني في جوهرها قضية اليقين؛ لأن الدابة ستخرج
لأن الناس لا يوقنون بآيات الله
ولذا أخذت مناقشة قضية اليقين قدرًا كبيرًا من آيات سورة النمل.
وكان أول ذلك هو مناقشة اليقين النفسي الذي لا يكون معه عمل وهو كعدمه كما في قول الله سبحانه: ** وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتهَا أَنْفُسَهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوَّا فَانظُرْ كُيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمفْسِدِينَ} [النمل: 14].
واجتماع الجحود والاستيقان في قلب واحد ووقت واحد سؤال يجب الإجابة عليه.
فليس الجحود انتفاء معرفة القلب ولكنه مخالفة الجوارح لمقتضى معرفة القلب.
ولعل هذه الآية بتفسيرها تمثل الأساس في قضية اليقين الواردة في السورة. لأن موضوع السورة والدابة .. هو العمل الذي لا ينفع اليقين النفسي إلا به
ثم يأتي ذكر داود وسليمان:
{ولَقَدْ آتَيْنَا دَاودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [15].
والمناسبة في ذكر داود تتضمن حقيقتين مهمتين بالنسبة لعلامة الدابة:
الأولى: أن خروج الدابة جاء بسبب كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة هي خطاب الله للإنسان، وأعلى درجات المخاطبة «الكلام»، ومن هنا كان فضل موسى على الرسل هو كلام الله له: ** تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
وعندما يكون الفضل في كلام الله للأنبياء الذي يبلغوه للبشر نفهم معنى الحرمان من هذا الفضل عندما يكون المتكلم مع الناس دابة من الأرض.
لذا كانت العقوبة على هذا الكفر هي النزول بمستوى البشر عن أن يكونوا أهلًا للمخاطبة بطريق المرسلين: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}.
فجاءت الدابة ومعها هذه الآيات، فتُكلِّم الناس بصيغة تتناسب مع ما وصلوا إليه من الكفر: بالتوبيخ والخطم؛ «حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه تقول: يا فلان، الآن تصلي؟! فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم تنطلق ... » ([4]).
وعلى ذلك تكون الدابة مرتبطة في دلالتها بما بلغه الإنسان من التدني، والانحطاط!!
ومن هنا كان من الضروري إثبات المقام الأصلي للإنسان؛ لأن إثبات هذا المقام هو نفسه الذي يُثبت معنى الانحطاط الذي بلغه هذا الإنسان، حتى بلغ أن يُخاطب من خلال الدابة ...
وعندما يُذكر المقام الأصلي للإنسان يُذكر «داود» كنموذج لهذا المقام .. بدليل حديث الوبيص الوارد في سنن الترمذي:
¥