{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [18، 19].
ولعلنا نتبين محورية الموضوع من تسمية السورة؛ حيث نُسبت إلى النملة التي سمع سليمان قولها.
ثم ذكرت «تكلم الهدهد» بعد النملة:
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [21، 22].
ولعل المناسبة في قصة الهدهد بين «سبأ والدابة» هي أن الخرجة الأولى للدابة ستكون من أقصى اليمن كما جاء أنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدَّابَّةُ يَكُونُ لَهَا ثَلاثُ خَرَجَاتٍ مِنَ الدَّهْرِ: فَتَخْرُجُ خَرْجَةً فِي أَقْصَى الْيَمَنِ ... ».
وأقصى اليمن هو سبأ .. كما جاء في تفسير الرازي: «أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى: ** قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}» ([9]).
وبذلك تكون مناسبة ذكر سبأ في قصة الهدهد هي أنها المخرج الأول للدابة.
وتتواصل الآيات في ذكر الحوار بين سليمان والهدهد ليساهم هذا الحوار في تقرير قضية الدابة؛ لأن الدابة من غيب الأرض؛ قال تعالى:
{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [25، 26].
لأن الخَبْءَ كلُّ ما غاب ([10]).
وقد ذكر الهدهد هذا المعنى الإلهي من خلال واقعه؛ حيث إن خبرته الخاصة أنه يرى ما تحت الأرض والطين، وهو من غيب الأرض.
وارتباط ذكر الهدهد لفعل الله «إخراج الخبء في السموات والأرض» بخبرته الخاصة- يُثبت قاعدة مهمة في قضية الأسماء والصفات: وهي أن أسماء الله وصفاته وأفعاله المعلومة لنا ينطبق عليها حدود معرفة الهدهد بالله ..
فتكون هذه الأسماء والصفات والأفعال المعلومة لنا هي المناسبة لنا والمحدودة بواقعنا البشري كذلك.
ولذلك ورد أن لله أسماء لا يعلمها إلا هو سبحانه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك .. أو علمته أحدًا من خلقك .. أو استأثرت به في علم الغيب عندك .. أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور بصري وجلاء همي وغمي .. » ([11]).
وقد تجانس كلام الهدهد مع كلام الدابة في إدراك حقيقة التوحيد والمفاصلة بين الإيمان والكفر، وبذلك كان كلام الهدهد لا يقل إعجازًا عن كلام الدابة، فإذا كانت الدابة ستعرف المؤمن من الكافر وتفاصل بينهما فإن الهدهد تكلم بنفس المستوى وحقق نفس المفاصلة من خلال:
- البصيرة في معرفة الواقع وتقييمه .. {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فيُقيِّم الهدهد الواقع: شرك بالله ومعرفة بالسبب وهو الشيطان وتزيينه العمل والصد عن السبيل.
- المنهج والعقيدة .. {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ([12]).
العلاقة بين سليمان وملكة سبأ .. وبين الدابة:
والعلاقة بين قصة سليمان وملكة سبأ وبين الدابة هي المضمون الثابت الواضح للقصة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار أن انقطاع هذا الأمر هو السبب الأساسي لظهور الدابة: عن ابن عمر في تفسير قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض} قال: «إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر» ([13]).
وكل نصوص القصة تثبت هذا المضمون؛ ابتداءً من مواجهة الهدهد لسليمان:
¥