إني رأيت في ترتيب كلام الله وله الحمد على ما أراني أن الكلام ينجر من أمر إلى أمر وكله جدير بأن يكون مقصوداً، فيشفي الصدور ويجلو القلوب، ثم يعود إلى البدء فيصير كالحلقة [5].
وإن من عادة العرب وفطرة البلاغة أن ينجر الكلام من أمر إلى آخر، ثم يعود إلى الأول أو الوسط وإذا كان المخاطب عالماً بأسباب الكلام عاقلاً له بقلبه لم يشكل عليه نظمه [6].
ومن أمثلته في القرآن الكريم سورة الممتحنة حيث بدئت بقوله - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) وختمت بقوله - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور)) الممتحنة (22)
وسورة الحشر بدئت بقوله - تعالى -: ((سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم)) وختمت بقوله - تعالى -: ((يسبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم))
وسورة المؤمنون بدئت بقوله - تعالى -: ((قد أفلح المؤمنون)) وختمت بقوله: ((إنه لا يفلح الكافرون)) وغيرها من السور.
فالوحدة الموضوعية في الممتحنة تدور حول البراءة من أعداء الله وعدم موالاتهم، والوحدة الموضوعية في سورة المؤمنون حول صفات المؤمنين المفلحين، وأوصاف الكافرين الخائبين.
4 - تكرار بعض الآيات أو معانيها في السورة: تكررت في بعض السور الآيات مرات عديدة، مثل سورة المرسلات، وسورة الرحمن، وسورة هود، وسورة القمر ...
والآيات التي تكرر ذكرها قوله - تعالى -: ((فبأي آلاء ربكما تكذبان)) وقوله - تعالى -: ((ويل يومئذ للمكذبين)) وقولهِ - تعالى -: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)) وقوله - تعالى -: ((فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)).
فتكرار الآيات في السورة الواحدة، رغم أنها تتطرق لعدة معان وتنجر من غرض إلى آخر، لكن هذا التكرار يدل على وحدة الموضوع الذي تدور حوله آيات السورة والهدف العام الذي تقصده.
متى بدأ الاهتمام بدراسة الوحدة الموضوعية عند العلماء؟
للتفسير أربعة أساليب هي:، التفسير التحليلي، وهو أقدمها، والتفسير الإجمالي، والتفسير المقارن، والتفسير الموضوعي والوحدة الموضوعية من جزئيات التفسير الموضوعي.
والتفاسير التي صنفت حسب هذه الأساليب كثيرة جداً تعد بالمئات، لكن المصنفات على طريقة التفسير الموضوعي قليلة جداً إذا ما قورنت بأساليب التفسير الأخرى، فلم يكتب فيها إلا القليل من العلماء.
التفسير الموضوعي حديث النشأة، فلم يظهر هذا المصطلح إلا في القرن الرابع عشر الهجري عندما قررت هذه المادة ضمن مناهج كلية أصول الدين بالجامع الأزهر.
وإن كان هنالك كتابات قليلة في هذا العلم ظهرت قبل القرن الرابع عشر الهجري، لكنها كما قلت لم تكن تعرف باسم التفسير الموضوعي، ولم يكن هذا العلم شائعاً مثلما هو الحال في زمننا.
فقد ألف العلماء في موضوعات مختلفة تتعلق بالقرآن الكريم كتب فيه أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224هـ (الناسخ والمنسوخ) وكتب الماوردي المتوفى سنة 450هـ (أمثال القرآن)، وكتب الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ (المفردات في غريب القرآن)، وكتب ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ (نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر)
وكتب ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ (أقسام القرآن)، وكتب برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور).
الوحدة الموضوعية في القرآن كله:
إن الإقرار بوجود التناسب بين الآيات يؤدي إلى انتظامها في وحدة موضوعية معينة تحت هدف عام ومقصد معين بالرغم من تنوع أغراض السورة.
وقد ذكرنا أن ترتيب الآيات أمر توقيفي، وأن الراجح في ترتيب السور أمر توقيفي أيضاً.
ومما أجمع عليه أهل التأويل من السلف والخلف على أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وأنه أوثق تعويلاً وأحسن تأويلاً، فإن أصح طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر [7].
فالله - سبحانه وتعالى- يقول: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر: 23]
¥