رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] من المطر والنبات. ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وإنما قلنا: ذلك أوْلى بالصواب؛ لدلالة قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] على ذلك».
وليعلم أن الأقوال إذا كانت محتملة في الآية وبنفس القوة فإنه لا ترجيح بينها، كقوله: {اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى} [الرعد: 8] «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» فما يحتمل أن تكون (موصولة) والمعنى: يعلم الذي تحمله كل أنثى من ولد على أي حال كقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34]. ويحتمل أن تكون (مصدرية) والمعنى: يعلم حمل كل أنثى كقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11].
ويكون الترجيح بين الأقوال إذا تعارضت، أو عارض بعضها نصاً أو إجماعاً، أو لم يكن بينها تعارض ولا مع غيرها؛ لكن كان بعضها أوْلى من بعض.
مثال الأول: خلافهم في تفسير (القُرْء).
ومثال الثاني: من ادعى جواز الجمع بين تسع حرائر مستدلاً بقوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] فهو خلاف إجماع الأمة وما روي عن سعيد بن المسيب: «ما سكر آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن سقته حواء من الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل» فهذا معارض لقوله - تعالى -: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47] (2).
ومثال الثالث: قوله - تعالى -: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] قيل: طريق خروجه من بطن أمه لدلالة السياق، وقيل: طريق الخير والشر. لقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. [الإنسان: 3].
تنازع القواعد:
إذا تنازعت القواعد المثالَ الواحدَ؛ بحيث صار لكل قول قاعدة ترجحه فإن المعتبر به غلبة ظن المجتهد كما قال الزركشي: «واعلم أن التراجيح كثيرة، ومناطها: ما كان إفادته للظن أكثر فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات كما في كثرة الرواة وقوة العدالة وغيره، فيعتمد المجتهد ما غلب على ظنه» (3).
وقال الشنقيطي: «والمرجحات يرجع بعضها على بعض؛ وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن» (4).
مثال ذلك: قوله - تعالى -: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء: 22] ففيها قولان:
الأول: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء؛ فمنكوحة الأب حرام على ابنه و (ما) في الآية موصولة، ويدل عليه سبب نزول الآية؛ حيث إن قيس بن صيفي بن الأسلت خطب امرأة أبيه فأنزل الله الآية.
الثاني: ولا تنكحوا نكاح آبائكم الفاسد الذي يتعاطونه في الجاهلية، و (ما) مصدرية؛ قالوا: لأن (ما) لا تكون إلا لغير العاقل غالباً، والقاعدة: وجوب حمل كلام الله على المعروف المشهور من كلام العرب.
ولا شك أن القول الأول هو الصواب لاعتماده على سبب النزول، هذا فضلاً عن كون (ما) وردت للعاقل في غير ما آية من غير نكارة ولا شذوذ كقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35].
نماذج من قواعد التفسير:
القاعدة الأولى: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أي: إذا وردت الآية على سبب خاص فإنها لا تُقصَر عليه، بل يُنظر إلى عموم لفظها؛ ومثالها: قوله - تعالى -: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] قيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، وقيل: نزلت في جماعة من قريش. قال ابن جرير: «وأوْلى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال إن الله - تعالى - ذِكْرُه ـ أخبر أن مبغض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأقل الأذل المنقطع عقبه؛ فذلك صفة كل من أبغضه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخص بعينه».
القاعدة الثانية: الخبر على عمومه حتى يأتي ما يخصصه.
¥