وكان مما اعتنى به القرآن الكريم ذكر قصص دعوات الأنبياء، وتصويرها بأبلغ أسلوب، وعرضها بأدق عبارة، حتى أصبحت أخبارهم في القرآن نماذج حيّة يحتذيها الدعاة ويقتبسون من نورها، ويهتدون بهداها ((أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)). وقد اخترنا دراسة موضوع الدعوة إلى الله من خلال قصة إمام الحنفاء وأبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام - ولم يكن اختياري لهذه الدعوة جزافاً بل لأسباب أوجزها فيما يلي:
أولاً: أنها دعوة خليل الرحمن، ومؤسس الحنيفية، وأحد أولي العزم الخمسة من الرسل.
ثانياً: أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)).
ثالثاً: تلك الصفات العظيمة التي تحلى بها إبراهيم حتى قال الله - تعالى - فيه (( .. وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى)) فكانت نبراساً يقتفى أثره فيها الدعاة إلى الله.
رابعاً: استغراق القرآن واستقصاؤه لأساليب إبراهيم المتنوعة في عرض دعوته على قومه، حتى إنه ليعز على الباحث أن يجد لنبي من الأنبياء خلا نبينا - صلى الله عليه وسلم - مثلما يجد لهذه الأيام من الطرائق والسبل في إقناع المدعوين وترويضهم على قبول الدعوة. ولا غرو فقد سنَّ للناس من بعده من الدعوة أساليب لم تعهد لأحد من قبله ولم تقف عند حد الكلمة بل تخطتها إلى الحركة والفعل.
خامساً: رسمت هذه الدعوة للدعاة منهاجاً في الصبر يحق لهم أن يقتدوا به، فقد صبر إبراهيم - عليه السلام - في أحوال مختلفة وظروف متباينة وأعمال متنوعة كالصبر على جفاء الأبوة، وعدوان العشيرة، وهجران الأرض، والفتنة بالنار، والأمر بذبح الولد، وغير ذلك.
وسنعرض الموضوع من خلال نماذج من صفات إبراهيم - عليه السلام - الدعوية وأساليبه في نشر دعوته.
نماذج من صفات إبراهيم الدعوية:
لن يتسع المقام لحصر تلك الصفات التي اتسم بها إبراهيم - عليه السلام - فلقد وصفه ربه بأنه وفّي جميع مقامات العبد مع ربه ولذلك سنقتصر. على جملة من الصفات ونخص بالذكر منها ما له صلة ظاهرة بدعوته، وله أثر ظاهر في الاهتداء والاقتداء به.
1 - أمة:
قال - تعالى -: ((إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً .. )) وهذه الكلمة تأتي لعدة معان، منها الجماعة ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً))، ومنها الزمان والحين ((وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)) ومنها: الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس، وهذا هو المقصود في حق إبراهيم، وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة وخلق حري بأن يحتذي به الدعاة في حياتهم وتزكية أنفسهم، واجتهاد أحدهم في تقويم أخلاقه والنشاط في دعوته ليقوم مقام أمة في ذلك. وقيل أن المقصود بالأمة هنا: أي الإمام، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري وابن كثير.
2 - قانت:
قال - تعالى -: ((إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً))، والقنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، وكذا يجب أن يكون الداعية ملازماً لطاعة الله على كل حال، فلا يكون كالمنبت يجتهد حتى تكلّ راحلته، ثم ينقطع، بل يلازم ويستقيم.
3 - حنيفاً:
والحَنَف: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل والجنف: ضده. والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل لمجرد الميل.
قال ابن كثير: الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد. وقد كان ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال - تعالى -: ((ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ))، وقال: ((ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ))، وهكذا فليكن أولياء الله.
4 - شاكر:
قال - تعالى -: ((شَاكِراً لأَنْعُمِهِ)) أي قائماً بشكر نعم الله عليه (وأصل الشكر) ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهوراً بيناً. يقال: شكرت الدابة: أي سمنت وظهر عليها العلف، وكذلك حقيقته في العبودية: وهذا ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة. والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه، وأن لا يستعملها فيما يكره (1)، وقد كان ذلك من إبراهيم - عليه السلام -.
5 - الحلم:
¥