تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال ابن القيم في مناظرات إبراهيم: " وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين وأهل الباطل، وكسر حججهم، وقد ذكر الله مناظرته في القرآن مع إمام المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة، وأقربها إلى الفهم وحصول العلم (1) " وسنذكر هنا مناظرتين وقعتا لإبراهيم، وذكرهما القرآن الكريم:

- الأولى: مناظرته لعبدة النجوم قال الله - تعالى - ((وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفاً ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وقَدْ هَدَانِ ... الآية)) إلى قوله ((وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) *

لقد عني إبراهيم وإخوانه من الأنبياء بالتوحيد وإيضاحه، والاستدلال له أيما عناية، وسلك في سبيل بيان الحق، وتزييف الباطل كل وسيلة تؤدي إلى ذلك، ومنها هذه المناظرة التي قامت بينه وبين قومه لبيان حقيقة ما هم عليه من الضلال.

فأنكر على أبيه اتخاذ الأصنام آلهة، ولما أشرك قومه معه شدد في إعلان النكير عليهم، وبين أن ما هم فيه ما هو إلا ضلال يبُين عن نفسه، وذلك ليثير عواطفهم، ويدفعهم إلى التفكير الجاد العميق فيما هم فيه، وكان إبراهيم قد بصره الله بالدلائل الكونية الدالة على وحدانية الله - تعالى -، فآراه آياته في ملكوته، ليعلم حقيقة التوحيد، أو ليزداد علما به، ويقينا إلى يقينه.

وأرشده إلى طريقة الاستدلال بها على المراد من العباد.

ودخل إبراهيم مع قومه الصابئة الذين يعبدون النجوم، ويقيمون لها الهياكل في الأرض، دخل معهم في مناظرة لبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب المعبودة، ولم يشأ أن يقرر التوحيد مباشرة. بل جعل دعوى قومه موضوع بحثه، وفرضها فرض المستدل لما لا يعتقده، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وكشف عن وجه الحق، فحينما أظلم الليل ورأى النجم قال: هذا ربي فرضا وتقديرا، وقال: أهذا ربي، فلما غاب عن أعينهم علم أنه مسخر ليس أمره إليه، بل إلى مدبر حكيم يصرفه كيف شاء، ثم انتقل بهم في البحث إلى كوكب هو في أعينهم أضوأ وأكبر من الأول، وهو القمر، فلما رآه قال مثل مقالته الأولى، فلما ذهب عن أعينهم تبين أنه ليس بالرب الذي يجب أن تألهه القلوب، ويضرع العباد إليه في السراء والضراء، ثم انتقل بهم إلى معبود لهم آخر أكبر جرماً من السابقين فلما أفل، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، فاستدل بما يعرض لها من غيرها على أنها مأمورة مسخرة بتسخير خالقها.

فإذا كانت هذه الكواكب الثلاثة في نظرهم أرفع الكواكب السيارة وأنفعها قد قضت لوازمُها بانتقاء سمات الربوبية والألوهية عنها، وأحالت أن تستوجب لنفسها حقاً في العبادة فما سواها من الكواكب أبعد من أن يكون لها حظ ما في الربوبية أو الألوهية، ولذا أعلن إبراهيم في ختام مناظرته براءته مما يزعمون من الشركاء، وأسلم وجهه لفاطر السماوات والأرض ومبدعهما، دون شريك أو ظهير، وضمَّن إعلان النتيجة الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله) فإن ما فيه من البراءة من الشركاء نظير نفي الألهية الحقة عن الشركاء في كلمة التوحيد، وبهذا يكون إبراهيم قد سنَّ للدعاة إلى الله أسلوبا متميزا في دعوة المنحرفين، وذلك بالتنزل معهم بالتسليم بأباطيلهم فرضاً، ثم يرتب عليها لوازمها الباطلة، وآثارها الفاسدة، ثم يكر

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير