عليها بالنقض والإبطال، فإن الدعوة إلى الحق - كما تكون بتزيينه، وذكر محاسنه - تكون بتشويه الباطل، وذكر مساويه ومخازيه (بتصرف من مقالة الشيخ عبد الرازق عفيفي في مجلة التوعية الإسلامية عدد 6، 7).
وقد اختلف المفسرون هل كان إبراهيم ناظراً أو كان منظراً * [والصحيح أن إبراهيم في هذا الموطن كان مناظرا لقومه لا ناظرا بنفسه ويدل على ذلك:
أ - قوله - تعالى -: ((ولَقَدْ آتَيْنَا إبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ)) والمراد بالقَبْلية ما كان قبل النبوة على الصحيح، وأي رشد آتاه الله إبراهيم إن لم يكن موحداً مؤمنا بالله.
ب - قوله - تعالى -: ((ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)) يقتضي نفي الشرك عن إبراهيم في كل مراحل عمره السابقة.
جـ - أن الله ذكر هذه الحادثة بعد إنكاره على أبيه وقومه، مما يدل على المناظرة.
د - أن الله - تعالى - ذكر القصة بعد أن ذكر منته على إبراهيم برؤية ملكوت السماوات والأرض ليكون من المؤمنين، ولذلك ذكر الفاء التعقيبية ((فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)).
ر - أن الله ذكر فيها ((وحَاجَّهُ قَوْمُهُ)) مما يدل على قيام المناظرة بينه وبينهم.
و - أن الله - تعالى - ذكر في خاتمتها ((وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)) فقال (على قومه) ولم يقل (على نفسه). وبهذا القول قال كثير من علماء السلف والخلف وهو الذي تدل عليه الأدلة.
الثانية: مناظرته للملك في قوله - تعالى - ((أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَذِي يُحْيِي ويُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَذِي كَفَرَ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [البقرة: 258].
لقد جادل الملكُ إبراهيم في ربه، وفي ذكر الرب وإضافته إلى الضمير العائد على إبراهيم تشريف لإبراهيم وإشعار بأن الله سيتولاه وينصره.
ولماذا يجادله؟ لأن الله آتاه الملك، فحمله كبره وبطره على طلب المخاصمة، ولم يكن بسبب إيثاره الحق وطلبه له.
وكان الملك قد طلب من إبراهيم - عليه السلام - أن يقيم له الدليل على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم:» ربي الذي يحيي ويميت «أي أن الدليل على وجوده هو: هذه المعجزة المتكررة الظاهرة المستترة، معجزة الحياة والموت، عندئذ قال الملك» أنا أحيي وأميت «فآتى برجلين استحقا القتل فأمضيه في أحدهما دون الآخر، فأكون قد أحييت الثاني، وأمت الأول، وهذه مكابرة صريحة، وعناد ظاهر، يعلمه كل ذي عقل، ولذلك ترك إبراهيم الخوض معه في مكابرته، وجاءه بواقعة لا يحير معها جوبا، قال:» فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب «أي إذا كنت قادراً على الإحياء والإماتة، وهما من صفات الرب، فيلزم أن يكون بمقدورك التصرف في الكون، وأن تأتي بالشمس من المغرب، عندئذ بهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
إن انتقال إبراهيم من دليل إلى آخر دون مناقشة لإجابة الملك الساذجة ليس عن هزيمة؛ لأن حجته كانت قائمة، إذ إبراهيم وكل عاقل يعلم أن المراد حقيقة الإحياء والإماتة، أما ما فعله الملك فأمر يقدر عليه كل أحد، حتى إبراهيم كان يمكن أن يقول له: إني أردت حقيقة الإحياء والإماتة، أما هذا فأنا أفعل مثله، ولكن إن قدرت على الإماتة والإحياء فأمت هذا الذي أطلقته من غير استخدام آلة وسبب، وأحي هذا الذي قتلته، فيظهر به بهت اللعين، إلا أن القوم لما كانوا أصحاب ظواهر، وكانوا لا يتأملون في حقائق المعاني خاف إبراهيم الاشتباه والالتباس عليهم، فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة، لا يكاد يقع فيها أدنى اشتباه.
وهذا الانتقال من أحسن ما يكون، لأن المحاجج إذا تكلم بكلام يدق على سامعيه فهمه، ولجأ الخصم إلى الخداع والتلبيس جاز له أن يتحول إلى كلام يدركه السامعون، وأن يأتي بأوضح مما جاء به، ليثبت ما يريد إثباته، وهذا لأن الحجج مثل الأنوار، وضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وهذا لا يكون إلا دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره.
9 - استثارة الخصم:
والمقصود بذلك: تحريك نفوس المدعوين، وتنبيه عقولهم، ولفت أنظارهم إلى الأمر الذي يدعوهم إليه الداعية.
¥