[هذه عطاءات البلد الحرام: فماذا أعطيناه (مقال للشريف حاتم العوني)]
ـ[مشتاق]ــــــــ[11 - 12 - 05, 01:14 ص]ـ
هذه عطاءات البلد الحرام: فماذا أعطيناه
الشريف حاتم بن عارف العوني 3/ 11/1426 05/ 12/2005
في خضمّ أحداث الحياة، وصخب الحضارة، وازدحام المشاغل، وهموم المعاش، وأكدار الدنيا من الأمراض والأتعاب وأنواع الابتلاءات = هناك لحظات في حياة المسلم تسمو على ذلك كُلّه، ترتاح فيها نفُسه من أنواع الهموم والغموم، بل تصفو من آثارها، وتعلو عليها، وتحلّقُ إلى السماء، في خطاب ربّ السماء (سبحانه)؛ إنها اللحظات التي يتوجّه فيها المسلم في كل بقاع الأرض إلى البلد الحرام لأداء الصلاة خمس مَرّات في اليوم والليلة.
شاء الله تعالى أن يجعل التوجُّه إليه والخضوع له واللجوء إلى جنابه منوطاً بالتوجُّه إلى البلد الحرام، في الصلاة والدعاء (إذ من مُستحبّات الدعاءِ وأسباب الإجابة التوجُّهُ إلى القبلة)، وفي الحج ومناسكه، وفي كل ساعات القُرب ومجالس الشَرفِ على مَدى الحياة، بل إلى ما بعد الممات، عندما يُوّجَّهُ المسلمون في قبورهم إلى القبلة= كل ذلك والمسلمون متعلّقةٌ قلوبهم بالبلد الحرام!!
- فإلى جهته: يُوحَّدُ الله تعالى.
- وإلى جهته: تُنْصَبُ القامات، وتذلُّ الأنوف الشامخات، وتسجد الجبهات، في الصلوات والدعوات وصنوف القُربات.
- وإلى جهته: يرفع المسلمون حاجاتهم، وتضرُّعَ دعواتهم، إلى ربهم، الذي أحبّ أن يجعل البلد الحرام جهةَ التوجُّهِ إليه.
عندها .. تتحقّق الحاجات، وتنزل الرحمات، وتُحيط بالمسلم الألطاف، وتحفُّه الملائكة الأشراف.
وعندها .. يرضى الرحمن، ونتحبّبُ إلى ربّنا المنّان، وتعلو منازلنا في الجنان، ونفوز بالنجاة من النيران.
هذه العطاءات كلّها (وهي كل العطاءات، فبها تتحقّق سعادة الدنيا والآخرة) قدّرها الله تعالى بالتوجُّه إلى البلد الحرام!!
فلا عجب بعد ذلك أن تُصبح القلوبُ به متعلّقةً، والأفئدةُ له هاويةً، والوجوهُ إليه متوجهةً! ولا عجب بعد ذلك أن لا يُذكر البَلَدُ الحرام في كل بقاع الأرض إلا رفرفرت قلوبُ المسلمين شوقاً إليه، وذرفت عيونهم صادق العبرات في انتظار لحظات اكتحالها برؤياه، والتنعُّم بقُرْبه والتقلُّبِ في أكنافه والبكاءِ على أعتابه والدعاءِ عند بابه.
لا عجب .. لأن بلداً ذاك هو عطاؤه (بتقدير الله تعالى)، حتى كان لقاءُ المسلم بربّه لا يصحّ في صلاته إلا بالتوجُّه إليه= سَتُطْبَعُ القلوب على محبّته، فتجري الدماءُ على ذكراه، وتذوب المشاعر على أمل لُقْياه.
فإذا حّرَك الحنينُ أقدامَ المحبّين، وانسابت خُطاهم كما تنساب حبّات الماء إلى مستقرّها، واتّبعوا نداء أبي الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام "وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالاً"، ذلك النداء الذي يكاد أَصَدَاهُ أن تسمعه الآذان، بعد أن سمعتّه القلوبُ الحنيفيّةُ المسلمةُ: ملة أبينا إبراهيم –عليه السلام- (1) فحرّك فيها ذاك النداءُ المشاعر، وحَرَّق لديها الأشواق، وخرَّقَ عليها حجابَ الصبر دون ساعات اللقاء.
فخرجت كالأمّ تسمع أنين رضيعها، لا تلوي على شيء، ولا تفكّر بشيء، إلا أن تلقاه.
نعم .. قاصدُ البلد الحرام كالأم في شدة الوَلَهِ وغياب الوعي إلا عن ذلك النداء لرضيعها، لكنه هنا ليس هو الأم التي تعطي بل قاصد البلد الحرام في العطاء هو الابن، وأمُّه هو البلد الحرام! فَحُقَّ لهذه البلدة أن تكون (أمّ القرى)، بل أن تكون (أم القلوب)؛ لأنّها أمّ العطاءات!!!
إبراهيمُ (عليه السلام) يؤذّن في الناس بالحجّ من آلاف السنين، فيستقرُّ في قلوب المسلمين ذاك النداء إلى يوم القيامة. يتشوّقون لساعة الإجابة، التي ينادون فيها: لبيك اللهم لبيك!!!
إنها قصّة حُبّ أزليّة، هي أقدم قصة حب بين إنسان وموضع على وجه الأرض، إنه حُبّ مكّة المكرّمةّّّ!!! فإذا اقتربت أقدام المحبين من الأعتاب، وأوشكت قلوبُهم أن تطرق الباب: فلا تسل عن أصوات البكاء من شوق اللقاء!! ولا تسل عن رفرفة الأرواح تكاد تخرج إلى تلك البطاح!!! فالقلوب تكابد الشوق من حين أن سمعت نداء الخليل –عليه السلام- من آلاف السنين، وتُجدِّدُ نارَ هذا الشوق في كل يوم وليلة بذاك التوجّه بالروح والجسد إليه، في أجلّ ساعات وأصفى لحظات وأهنأ أوقات.
¥