وقد رَوى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال: قال رسول الله e: " مَن يَقُلْ عَلَيَّ مَا لم أقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" وذلك أنه بعث رجلاً فكذب عليه، فوجد ميتاً قد انشق بطنه ولم تقبله الأرض.
ورُوي أن رجلاً كذب عليه، فبعث علياً والزبير إليه ليقتلاه.
اختلاف العلماء في حكم من كذب على الرسول
وللناس في هذت الحديث قولان:
أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله e، ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك؛ قاله جماعة منهم أبو محمد الجُوَيْنِي حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني: "مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين؛ لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلدٍ سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له".
ووجه هذا القول: أن الكذب عليه كذبٌ على الله، ولهذا قال: "إِنَّ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُمْ" فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به.
ومن كذَّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره (فهو كمن كذب خبر الله و امتنع من التزام أمره)، ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كَذَبَ فيه كمسيلمة والعَنْسِي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله e.
يبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى:) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لمَّا جَاءهُ (بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له، ولهذا بدأ الله به، كما أن الصادق عليه أعظمُ درجة من المصدِّق بخبره، فإذا كان/ الكاذب مثل المكذِّب أو أعظم، والكاذب على الله كالمكذب له، فالكاذب على الرسول كالمكذب له.
يوضح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب؛ فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافراً لما تضمنه من إبطال رسالة الله ودينه. والكاذب عليه يُدخِِل في دينه ما ليس منه عمداً، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر لأنَّهُ دين الله، مع العلم بأنه ليس لله بدين.
و الزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين مَن يكذب بآية من القرآن أو يضيف كلاماً ويزعم أنه سورة من القرآن عامداً لذلك.
و أيضاً، فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السَّفَه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.
وأيضاً، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك، أو أنه حَرَّم الخبز واللحم عالماً بكذب نفسه؛ كفر بالاتفاق.
فمن زعم أن النبي e أوْجب شيئاً لم يوجبه أو حرم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صَرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه ـ أفتى القائل ـ لم يَقُلْه اجتهاداً واستنباطاً.
و بالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالاً، ولا يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه؛ فإنه مستخفٌّ به مستهين بحرمته.
وأيضاً، فإن الكاذب عليه لا بد أن يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: "كان يتعلم مني" أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة؛ كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنَّهُ إما أن يَأْثُر عنه أمراً أو خبراً أو فعلاً، فإن أثر عنه أمراً لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به، لأنه لو كان كذلك لأمر به e، لقوله: "مَا تَرَكْتُ مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُمْ/ إِلى الجَنَّةِ إِلاَّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ مِن شيءٍ يُبعدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلاَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ" فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه، فمن روى عنه أنه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له
¥