ولكن باحثا أمريكيا هو الأستاذ توبى. أ. هاف أستاذ الأنثروبولوجيا والمتخصص فى بحث الأنظمة القانونية أو الشرعية فى العلم يتزعم رأيا آخر مبناه أن ثورة الغرب القانونية استهلت فى أواخر القرن الحادى عشر، ولم يكد القرن الثالث عشر يبدأ حتى كان فى غرب أوروبا تحول جذرى أثمر من بين ما أثمره تصورا لنسق قانونى على مستويات مختلفة من الاستقلال ……. لقد حدث تغير عميق، غير تماما من طبيعة القانون كنظام سياسى وتصور فكرى، وقد كان هذا التغير من الجدية والجذرية والمستويات الكاملة والبعيدة بحيث يعد تطورا ثوريا فى التنظيم القانونى، ولم يكن مجرد تكملة لنظريات أو سياسات سابقة، وإنما استجابة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بالدرجة الأولى ().
وعلى الرغم من أن عطاء الثورة القانونية الدقيق لم يؤت أكله بشكل واضح إلا فى القرن الثامن عشر – لأسباب نأمل أن نعالجها فى بحث تال – فإن التاريخ الذى يذهب إليه الأستاذ هاف يبدو لى مقبولا، حيث لا يتصور أن تنال النهضة من جوانب العلوم المختلفة، وتقصر فى جانب القانون.
وإذا كانت السياسة الجنائية الحديثة لم تر النور إلا بعد الثورة الفرنسية فذاك لأن القانون الجنائى مرآة صادقة للنظام السياسى، بل كما ينقل عن العلامة جراماتيكا " ذو مضمون سياسى أكثر منه قانونى" ().
ولما كانت النظم الحاكمة فى أوروبا لم تزل على عهدها الموروث قاهرة متسلطة، وكانت الكنيسة لم تزل قابضة على مقادير الحريات، تفتش عن السر فى قلوب العباد، ولم تكن الثورات قد تمكنت من مبتغاها بعد فإن السياسة الجزائية الحديثة لم تر النور إلا بعد أن أزيحت سلطتا الغشم والإرهاب الزمنية
والدينية معا ().
وليس ثمة ما يمنع أن تكون هناك نسق قانونية ذات مضمون ما يتناسب والأوضاع التى تحرص عليها رؤوس المجتمع، فالأمر لا يتعلق فى نظرة "هاف" بتشريع عادل، بقدر ما يتعلق بصناعة تشريعية.
المطلب الثانى
الأصول المدعاة للثورة القانونية فى الغرب
ذكرنا أن الأستاذ توبى هاف يؤرخ للثورة القانونية فى الغرب بأواخر القرن الحادى عشر حتى بداية القرن الثالث عشر، وهو وجماعة من الباحثين الغربيين إذ يرجعون الثورة إلى هذا التاريخ إنما يهدفون إلى تأصيل النهضة الأوروبية على أسس فكرية غربية خالصة، دون أن يكون أى من عناصرها راجعا إلى الإلهام الإسلامى () ذلك أنه لو لم تهيأ – فى رأيهم – البنيات العلمية الناشئة عن البنية القانونية للمجتمع فلن يكون لأى معرفة أثر فى البناء الحضارى، يقول: "إن لدينا من البينة ما يجعلنا نختم القول بأن الثورة القانونية والفكرية التى حدثت فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر فى الغرب، والتى أدت دورها فى تحويل المجتمع الوسيط قد شكلت أساسا لنشأة ونمو العلم الحديث " ().
ومحاولة الأستاذ هاف وأكثر كتاب الغرب إرجاع الثورة القانونية إلى الفكر الغربى الخالص تستهدف تجريد الأثر الفكرى الوافد من الحضارة الإسلامية من كل دور فعال، ناهيك عن تكريس الزعم بأن الترجمات الغربية للثقافة العربية كانت انتقائية، وأنها انصبت بوجه خاص على الترجمات العربية لموروث الإغريق والرومان () فنصيب العرب فى هذه النقلة الحضارية الهائلة لا يعدو دور الحمال الأمين، أو الناقلة الصبور.
أما محركات هذه الثورة فهى مدونة جوستنيان والفكر الكنسى والاتحادات.
ونعرض فيما يلى لتصورات الغرب عن هذه المؤثرات ونناقشها فى الأفرع التالية
الفرع الأول
مدونة جوستنيان وثورة الغرب القانونية
يحظى تاريخ روما القديم بدفاع محموم بهدف تمجيدها وإضفاء هالة من الجلال عليها () والغرب إذ يفخر بروما ككل ففخره بالقانون الرومانى يفوق كل حد ().
ومعظم المفكرين الأوروبيين إذ يكتبون حول الإنسانية أو الحضارة الأوروبية فإنهم يهتمون بالمقام الأول بالأفكار والقيم التى نسبوها إلى أوروبا باعتبارها متميزة عن الشرق وإفريقيا () ويكشف المؤرخ ساسون عن هذه الحقيقة فى دراسات أوروبا التاريخية فيقول " إن المنظور القومى فى كتابة تاريخ إسرائيل القديمة ارتكز على محاولات مماثلة فى كتابة التاريخ القديم لكل من اليونان وروما واتخذها نموذجا، وقد اتخذت دراسة تلك العصور القديمة زخما يدعم مصداقيته من ذاته " () وقد يصل الحد بالقومية كما يقول أرنست جلنر أن تخترع غير الموجود
¥