" أكيرس " أو حاشيته على دستور الثالوث الأعظم والعقيدة اللاتينية " بأن فيها شيئا كثيرا من التحايل، إذ ما هى الصلة بين قانون يوجب التعصب الدينى، وينكر حرية الأديان، وبين مسائل تنازع القوانين؟ () وعلى هدى ملاحظتهم نقول: ما الصلة بين فكر يبيد حكمة الحكماء وفهم الفهماء ويحرم المحاورات والمناقشات وبين العقلانية؟.
ولا يبق بعدئذ إلا أن يكون منظار العقلانية هو منهج النظر الإسلامى ()، إذ لم يكن لأوربا فى القرن الحادى عشر شيئا يذكر من الثقافة، وإنما كانت صغيرة مبتدئة بالنسبة للحضارة الإسلامية وقد أخفقت أن تقيم تقاليد فكرية خارج نطاق الكنيسة" () وإزاء هذا فإن المترجمين الأوربيين إذ شرعوا فى ترجمة التراث الإسلامى الخصب بحماس فذاك بغرض الترويج لحكمة السادة العرب ().
وبدهى أن أوربا إذ رتبت تنظيم العناصر المأخوذة من الفكر العربى انصرفت عنايتها " إلى جملة المعارف التى لم تبلغها بعد فى بنائها الدينى الثقافى الخاص" ().
وعلى ما تذكر الدراسات التاريخية فإن أكثر المعنيين بعلوم العرب وترجمتها هم رجال الكنيسة، أمثال البابا " سلفستر الثانى " بابا الكنيسة الكاثوليكية فى الفترة من 999 – 1003 م () ورايموند مطران طليلة الأسبانية الذى ابتدأت على يديه الترجمات المنظمة الدورية () وبونا فنتورا الإيطالى المولد والذى رسم قديسا عام 1252 م، ويعد فى نظر المؤرخين عميد مدرسة أغسطينية الفرنسيسكان فى أوج ازدهارها () وتوما الأكوينى الفيلسوف واللاهوتى الإيطالى، والنجم الأكثر ريادية وانتشارا وتأثيرا بين أتباع المدرسة الدومينكانية (). وروجر بيكون رائد المدرسة الإكسفوردية، التى وضعت وللمرة الأولى فى الغرب المنهج التجريبى فى مواجهة المنهج التقليدى التأملى ().
3 - ويظهر أثر المنهج الإسلامى فى الثورة القانونية فى تحليلات بيتر أبيلار (1079 – 1142) الراهب والفيلسوف الذى كان متهما بالهرطقة والبواعث غير المسيحية، ومن مقولاته الخالدة أن " كلمة " عربى " معادلة تماما لكلمة
" فيلسوف " وكان يقول: إن صراعات الفلاسفة الدائمة مع المؤسسة الدينية للكنيسة الأوربية يمكن تأصيلها وتنظيمها وبالتالى توجيهها انطلاقا من أى بلد إسلامى، وأنه شخصيا يمكن أن يعمل فى هذا البلد الإسلامى المتفلسف ولو بقوت يومه فقط، حتى وإن كان وسط " أعداء المسيحيين " ولكن بشرط أن يتمتع عندهم بوضع رسمى " ().
وأبيلار - كما يقول توبى هاف - من الشخصيات التى لا يمكن أن يتجاوزها النظر فى القرن الثانى عشر، ومن المستحيل أن تنتقى أى مؤلف رئيس - فى هذا القرن – يتناول القانون والمنطق والأخلاق والفلسفة والضمير وكذلك تأسيس الجامعات لا يعطى دورا أساسيا لتعاليم وكتابات أبيلار ().
المهم أن لأبيلار مؤلفا عنوانه " نعم ولا " مضمونه السعى إلى كشف متناقضات العقيدة والإيمان للوصول إلى أساس متين قائم على العقل والمنطق، ومما ينسب إليه قوله " والمعرفة هى فهم حقيقة الأشياء، الحكمة التى يتكون منها الإيمان، إذ هو فرع منها، هذه الحكمة هى التى تميز ما هو شريف أو نافع، ولكن الحق لا يعارض الحق، لأن الحقيقة لا تعارض حقيقة، ولا الخير يعارض الخير" () وكأننا نقرأ رسالة الكندى إلى المعتصم بالله فى الفلسفة الأولى () أو نقرأ اختصارا لمنهج الفارابى فى التوفيق بين الفلسفة والدين () ولولا أن أبيلار أسبق من ابن رشد لزعمنا أن هذا هو " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ".
وإذا كانت الفلسفة التى وعاها أبيلار يسرت له إيجاد تدرج فى المعارف فإن مناهج النظر فى الفقه الإسلامى والتى تبدو واضحة فى كتابه " نعم ولا " قد مكنته وزملاءه من إيجاد تدرج فى المصادر القانونية ().
فعلى ما ذكر" هاف " فإن أبيلار أتى " بأسلوب جديد من التحليل والتركيب طبق لأول مرة على القانون واللاهوت … وهذا هو المنهج الجدلى الذى يبحث عن التوفيق بين المتضادات فى أشكال وتفاصيل جديدة " وذلك بالوصول إلى خاتمة أو حل مبناه أن الاستدلالات التى أدت إلى الضد ليست صحيحة، أو أن تترك القضية فى ضوء ما أدى إليه الضد ().
¥