وآخر قوله" إن ما نهدف إليه هو بيان أن أهم نتائج هذه الثورة التى فصلت بين السلطات الدينية والمدنية هى إعلان الكنيسة الاستقلال القانونى فأوجدت بذلك فكرة استقلال الأحكام القضائية، والنتيجة العكسية للمنازعات أن أعلنت الكنيسة فى شخص البابا جريجورى السابع (1073 – 1085) السيطرة القانونية للكنيسة برئاسة البابا على كل السلطات المدنية.
والنتيجة أن الكنيسة بهذا أوجدت أول نسق قانونى – يعنى ترتيب إدارى – حديث، بل أكثر من ذلك أن التعديل الثورى هو الذى أنجب الدولة الغربية الحديثة، التى ترسمت النموذج الذى انتهجته الثورة الكنسية ().
تعقيب
مضمون حكاية " توبى هاف " أن الكنيسة أرادت لنفسها الاستقلال القانونى عن القوانين السائدة، فلما نوزعت فى ذلك أعلنت أنها صاحبة السلطان الأعلى على الدول الأوربية، " وهذا الحلم اللذيذ – وفق عبارة ديوارنت – قد تحطم على صخرة الطبيعة البشرية " ().
وليست لنا مجادلة فى حرص البابوات على سلب سلطات الأباطرة والملوك، إذ أن هذا غرض سعى إليه البابوات من قديم، أما جدالنا فينال من اعتبار الأفكار الرومانية، والأعراف الأوربية أساسا للثورة البابوية، كما لنا أن نجادل فى اعتبار هذه الثورة أساسا لنظم الحكم الغربية الحديثة، لأن استقلال الكنيسة ككيان عن المجتمع له قوانينه ونظمه الخاصة يعنى أولا تكريس السلطة والحق الإلهى ()، وهو يضاد تماما مبدأ الفصل بين السلطات الذى تعتنقه الدولة الحديثة.
ولا يمكن أن يكون نواة للفيدرالية ()، لأن الفيدرالية تعنى الاستقلال فى المسائل الداخلية فقط، أما المظاهر الخارجية للسيادة فهى لدولة الاتحاد، وآفة العصور الوسطى هى ذلك الصراع الدامى بين الكنيسة والأباطرة، فلطالما سعت الأولى إلى سلب كل نفوذ للآخرين مما أدى إلى ثورتهم عليها فى آخر الأمر، فتحطم الحلم اللذيذ على صخرة الطبيعة البشرية.
المصدر المنطقى للتراتيب الإدارية فى الكنيسة:
التراتيب الإدارية التى أتت بها الثورة المذكورة ليست شيئا جديدا فى عالم السلطة، إلا أن يكون ذلك انتفاضة على التقاليد السائدة عندهم آنذاك، ومع ذلك فإن المصدر القريب لهذه التقاليد فى ممارسة شئون الحكم هو على ما ذكر الكاتب الأسبانى بلاسكو أبانيز – النظام الإسلامى فى الأندلس المجاورة، يقول " ولقد عمت الحرية فى ذلك العهد أقاليم أسبانيا المسيحية نفسها، قبل أوروبا الشمالية بزمن طويل، واستقلت بتنظيم أمورها المالية، وجعلت الملك أو الأمير بمقام رتبته العسكرية وأصبحت المقاطعات كالجمهوريات الصغيرة التى يتولاها حكامها المنتخبون، وكان المتطوعون فى المدن قدوة مثلى للجيوش الديمقراطية وكانت الكنيسة المسيحية وهى على اتصال بالشعب تعيش بسلام فى حوار الأديان المختلفة" ().
هذا هو المصدر المنطقى الذى يقتدى به البابا أو غيره فى إقامة تراتيب إدارية صحيحة.
أما دعوى استقلال القضاء، وخضوع الكنيسة كسلطة للقانون، فبفرض حدوثه فالظن أنه لم يبد واضحاً إلا بعد هذا التاريخ حيث وضع روجر بيكون
(1214 – 1292) نظريته حول السلطة البابوية، وأطروحاته السياسية التى جدد فيها أفكار ابن سينا والفارابى فى ميدان السياسة والعلاقة بين الحاكم والمحكوم ().
ومع ذلك فإن اضطلاع الكهنوت بالتشريع والتفسير والقضاء يفقد هذه الثورة المزعومة كل قيمة إصلاحية، لأن غاية أثره أنه نقل " ينبوع العدل " من الملك إلى البابا، ولا شك أن الكهنة سيحرصون على احترام تفسيراته إعمالا للعقيدة المتوارثة " ما يرضى الأمير له قوة القانون " ().
ولسنا نشك فى أن هذا هو ما جرى، لأن كتاب " اليوتوبيا " () الباحثين عن المدينة الفاضلة كانوا يحلمون ألا تترك سلطة التفسير مطلقة فى يد القضاة لأنه "حين ترك للقاضى أن يفسر القانون، وعندما تحولت روح القانون، ورأى البرلمان والحكومة – فى حلم الكاتب – إلى صدور القضاة، ارتفعت الشكوى من ظلم القضاة والمحاكم ومن مسار القانون نفسه، وكأنما هو قانون شرير، والسبب فى ذلك هو تحريف القانون الذى كان قاعدة ثابتة … فلا عجب أن تكون القوانين الملكية – وهى أخف وطأة من القوانين الكنسية – شديدة التعقيد، وألا يعرف مسار القانون سوى قلة ضئيلة من الناس، لأن الحكم فى معظم الحالات يكمن فى صدر القاضى، وليس فى نص
¥