القانون.
لا شك أن كلا من القضاة الناطقين باسم القانون والقساوسة الناطقين بكلمة الرب، كانوا خدما غير مخلصين لا للإنسان ولا للرب، لأنهم أخذوا على عاتقهم نشر ذلك القانون وتفسيره " ().
والخلاصة
أن الثورة البابوية إن كانت قد أتت بتراتيب إدارية فذاك اقتباسا من النظام الإدارى فى الدولة الإسلامية، حيث تركت أهل الذمة وما يدينون، وأخذت على عاتقها " ألا تتعرض لهم فى بيعهم وكنائسهم، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته " () وقد جرت سنة حكام المسلمين أن يرد أهل الكتاب فى حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم، إلا أن يأتوا راغبين فى حكم الله فيحكم بينهم بكتابه () على هذا جرى عرف حكام المسلمين، منذ أن فتح عمرو بن العاص مصر، حيث ولى قضاة من الأقباط ليحكموا بين أهل ديانتهم، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب? أقره ولا يعلم له مخالف من الصحابة ().
وعلى فرض أنه تقليد زعامة ورئاسة، وليس بتقليد حكم وقضاء () فإنه جرى واطرد عليه العمل، وظاهر جدا فى كلام ابن القاسم المالكى أن إنفاذ الأحكام على الذميين حق الأساقفة، حتى إن قاضى المسلمين لا يحكم إلا إذا رضى أساقفتهم () وقال أصبغ فيما باعه الأسقف من أرض الكنائس وأحباسها " إن حكم المسلمين لا يحكم فى منع بيع ذلك لمن أراد بيعه، ولا رده إن بيع، ولا إنفاذ حبسه ولا جوازه، ولا يسعه ذلك " ().
إذن ومع عدم معرفتنا الكافية بتفاصيل الثورة البابوية على شعارها القديم "تحيا الكنيسة بالقانون الرومانى " فإن مثل هذه الثورة يجب أن تكون مدينة لأعراف الكنائس فى ظلال الحكم الإسلامى وليست الأفكار الرومانية، ولا القانون الكنسى الذى يفرض الخضوع للسلاطين الفائقة، حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله" ().
المصدر المنطقى لنموذج الدولة الحديثة.
بقى زعم الكاتب أن الثورة البابوية هى التى أنجبت الدولة العلمانية الحديثة، وهذه نتيجة مجافية لطبيعة هذه الثورة التى سعت لاستلاب السلطة المدنية من السلاطين.
أما النموذج الحقيقى الذى سعت السلاطين إلى احتذائه – وإن لم توفه قدره لأوجاعها الخاصة – فهو نموذج الدولة الإسلامية، ذلك لأن هذه الدولة التى لا تقر الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية لا تعرف ما يسمى برجال الدين حتى يخضعون الولاة، كما أن رجال الحكم فيها ليسوا كهنة، وإنما هم عمال إدارة () يختارون فى الأصل بمقتضى البيعة، وشأنهم شأن المحكومين فى الخضوع للقانون
وغير المسلمين وإن جهلوا مثال الدولة الإسلامية كما يحده الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، فإنهم لم يجهلوا أبدا الدولة القائمة بالفعل، وهم يختلفون إليها فى السفارة والتجارة وطلب العلم، ناهيك عن المصنفات التى ترجموها عن علماء المسلمين فى شئون الحكم والإدارة ().
يقول الأستاذ العقاد " وكان استقلال الملك المسلم عن سلطان رجال الدين فى الشرق والغرب من أقوى الحوافز التى جالت فى خواطر الملوك الأوروبيين زمنا بعد مقاربتهم للدولة الإسلامية فى الأندلس تارة، وفى البلاد التى تناولتها الحروب الصليبية تارة أخرى، فنزعوا بدوافع من الغيرة، والقدوة الماثلة أمام أعينهم إلى محاكاة أندادهم وأقرانهم، والتمرد على ذلك السلطان الشامل الذى فرضته الكنيسة عليهم وعلى رعاياهم.
ومهما يكن من تعدد الأسباب التى تقدمت ثورة الملوك على الكنيسة فمن أسبابها التى تذكر ولا تنسى هذه القدوة الملكية الماثلة فى الأندلس ومصر وبلاد الشرق الأدنى، ولم يتفق عبثا على ما نرى أن تبدأ الثورة فى ألمانيا وإنجلترا وهى البلاد التى كان لها ملوك وأمراء أقاموا بالشرق فى خلال الحروب الصليبية فإن هؤلاء الملوك جربوا إنشاء الدول بأسمائهم فى البلاد الشرقية، بعد أن غلب الظن أن هذه الدول ستقام باسم السلطة البابوية، والحرب حرب صليبية، والمرجع فيها إلى رجال الدين وأحبار الكنيسة، فلما استقامت لهم التجربة، ومثلت أمامهم القدوة، وأتيحت لهم أو لخلفائهم الفرصة المواتية خرجوا على سلطان الكنيسة، فكانت هذه هى الخطوة الأولى فى سبيل الفصل بين الدين والدولة، أو فى سبيل عزل الكنيسة عن تدبير الشئون السياسية فى البلاد الأجنبية عنها.
¥