وقد كانت هذه الثورة الملكية ضرورية قبل الثورة الشعبية التى تلتها، وكانت حرية الشعوب مع ملوكهم على قدر حرية الملوك مع رجال الكنيسة، ولولا أن ثورة الملوك كانت لازمة قبل ثورة الشعوب لاستفاد الأوروبيون من مقاربة الدولة الإسلامية معنى آخر أجل وأسمى من هذا المعنى، فى فهم حقيقة الدولة، وحقيقة الرعوية، أو العلاقة بين الراعى والرعية " ().
- 2 -
بروز فكرة الضمير
يرى القائلون بالتطور الذاتى للقانون الغربى أن اعتبار الضمير والعقل سلطة فوق السلطات المتنافرة حتى فى مجال المقدس المتوارث كان اختراقا فتح الطريق لآفاق من الإمكانيات الفكرية ولمجالات جديدة من الحرية ().
لقد تبنت المسيحية دوما من حيث المبدأ المسئولية الأخلاقية غير المشروطة للفرد وفقا لمذهب القديس بولس عن الضمير، يقول بولس " حيثما يطيع الأميون الذين لا قانون لهم غريزيا مقتضيات القانون فهذا هو قانونهم، مع أنه ليس لديهم قانون، فإنهم بذلك يقدمون أثر القانون المكتوب فى القلوب، ضميرهم الشاهد عليهم حسب معتقدهم الخلقى، بما يرفض أو يسمح من أفعال" ().
وتظهر قيمة الضمير فى قدرة الإنسان على الوصول إلى الحقائق الأخلاقية دون مساعدة من الوحى () بل إن الضمير حكم على المقدس () وتحقيقا لذلك يفترض أن هناك قانونا طبيعيا يسمو فوق كل القوانين، فلا يصح أن يتغلب القانون المدنى-البشرى – على القانون الطبيعى، كذلك لا يصح أن يتعارض معه القانون الكنسى لأنه متفرع منه ().
" إن الممارسات الكنسية أو العلمانية إن ناقضت القانون الطبيعى فإنها يجب أن تستبعد " ().
تعقيب
نعلم يقينا أن فجر الضمير أبعد كثيرا مما رده إليه المؤلف، فليس هو من محدثات القديس بولس، ولا من إعلاءات الرواقيين () ولا من إبداعات الفراعنة كما حاول البعض أن يؤصله () إن قانون المعلنات () وجد منذ علم الله آدم الأسماء كلها، قال تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" ().
ولسابق تعليم الله له أمر عند هبوطه باتباع الهدى ومراعاة سنن الله فى الكون. قال سبحانه " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ().
وقد أعلن ولد آدم عن ندامته إذ غاب عنه قانون المعلنات فى الوفاء بحق الميت – قال سبحانه " قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوءة أخى فأصبح من النادمين " ().
الضمير والنزعة إلى العدل فى الإسلام:
ومن جانب آخر فإن الإسلام لم يقف عند حد الكشف عن الضمير، بل سائله قال تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " () وفى السنة المشرفة " استفت نفسك وإن أفتاك المفتون " ()
وفى التدرج الدعوى سبقت دعوة الإيمان شرعة الأحكام، وقبل أن يكون القانون الجزئى ببيان الحلال والحرام كان القانون الكلى المسطور فى الكون الذى يشهد لله بالوحدانية والعدل والكمال ().
قال تعالى " ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور" ().
فحيث لا تفاوت فذاك الكمال والانتظام، وحيث رتب كل شئ فى موضعه فذاك العدل، ولو انعكس شئ لاختل نظام الكون، وتعطل انتظام سير العالم.
" وعدل الله وحكمته تتضحان للناظر فى وضع الأشياء فى مواضعها اللائقة بها، ومن هذا المعنى يستمد عدل الإنسان فى نفسه وفى معاملاته لغيره بحيث يستعمل أعضاءه، وجوارحه فى الوظائف التى حددها الشرع ولا يخرج فى ذلك عن حد الاعتدال والقصد، وكذلك معاملة الناس بعضهم لبعض () وبالجملة فإن كان هناك من يعلى من شأن الفضائل والمسئولية الشخصية فلا سبق له على الإسلام فى كم أو كيف ().
المصنفات الإسلامية ودورها فى فكرة الضمير
¥