تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لست أخالف الكاتب قوله إن الرومان عرفوا فكرة الشخصية الاعتبارية ()، وأنها ذات أهمية بالغة للتقدم الاجتماعى والاقتصادى بل إنها تعتبر بحق " من أهم العوامل التى ساعدت الإنسانية على التقدم حتى بلغت هذه الدرجة التى نشهدها من المدنية، مما مكن للمشروعات الضخمة والأغراض العظيمة التى تفوق طاقة كل مجهود فردى مهما عظم شأنه أن تخرج إلى حيز الوجود، بفضل هذه الأشخاص المعنوية التى تقوم بها، فالشخص المعنوى بلا شك أحد الدعامات الأساسية التى تقوم عليها المدنية الحديثة " ().

ولكن الكاتب كعادته حرص على أن يميز العصر الوسيط بأنه هو الذى كرس للمجتمع الحديث هذه الفكرة، وفتح عينيه على نظم الفصل بين السلطات، والتمثيل البرلمانى، والتدرج التشريعى والانتخاب إلخ ما ذكر.

والحقيقة أن كل ذلك قيل عن الرومان، وعلى ما ذكر المؤرخ الأسبانى أبانيز فإن الأندلس المسلمة سبقت إلى ذلك بالنسبة إلى المقاطعات، فقد " أصبحت المقاطعات كالجمهوريات الصغيرة التى يتولاها حكامها المنتخبون …… وإن الطابع الأسبانى لأبرز فى عصر النهضة الأوربية من الطابع الإيطالى " ().

ولعل فيما جرى عليه تقليد حكام المسلمين من التخلية بين الأحبار وبين الكنائس فى شئونها الخاصة، بل فى شئون اتباعها – فى حقوقهم ومواريثهم – على رأى بعض العلماء النموذج الأوضح لاستقلال الاتحادات ().

ومع هذا فإن الكاتب قد اختزل الزمن، فأعاد ما أثمره استقلال الاتحاد الأمريكى (1776 م) والثورة الفرنسية (1789 م) إلى القرنين الثانى عشر والثالث عشر، فتصور أن " المدن الأوربية كانت تتصرف كولايات حديثة " () ولو صدق حدسه لكان من المنطقى أن يتمثل رواد نظريات السيادة هذه الفكرة الرائعة ولما كلفوا أنفسهم توهم " العقد الاجتماعى " والكدح فى تأسيس هذه الفكرة على اعتبارات مقبولة ().

إن الشخصية الاعتبارية على ضرورتها الاجتماعية فإنها لا تتمتع بالوجود القانونى إلا بالاعتراف بها، ولا تمارس دورا قانونيا – كيف كان – إلا بإقرار لائحتها المنظمة من قبل السلطات المختصة فى المجتمع المنظم، فهى ثمرة من ثمراته وليست بذرة له ().

وأخيرا فإن الآثار الرائعة التى يتوهم الكاتب أنها وجدت بوجود الشخص المعنوى كنظام الانتخاب، والتصويت، وحق الاجتماع، والتمثيل النيابى الحر لم تبرز إلا بعد وجود الديمقراطيات فى الغرب، ولم توجد ديمقراطيات إلا بالثورات التى تخلصت أولا من الكهنوت، ثم استدارت على الجبروت، ويومئذ كانت العصور الوسطى قد ولت ()، ولعل من أبلغ الأدلة على أن هذه المثالية لم تكن فى العصور الوسطى ما نطالعه فى فكرة المدينة الفاضلة عند رواد عصر النهضة الأوائل من تمنى قيام " اتحادات " أو " أنظمة " تمثل فيها الأسر والقطاعات تمثيلا عادلا، وينتخب فيها الرؤساء على كافة المستويات انتخابا حرا، ولا يمضى أمر دون أن يعرضه الرئيس – فى كل مستوى – على الجماعة لمنع أى ظلم أو استبداد بالشعب، وتحاشى الفردية فى صدور القانون. لو كانت الاتحادات قائمة على نحو ما يزعم الأستاذ" هاف " لما احتاج توماس مور (1478 – 1535) أن يتمنى ().

المبحث الثالث

الإسلام والثورة القانونية فى الغرب

المطلب الأول

مزاعم الغرب عن الدور والفقه الإسلامى

إنكار الدور الإسلامى فى التكوين القانونى الغربى ظاهرة مثيرة للانتباه حتى ممن تحلوا بشىء من النصفة تجاه الإسلام وثقافته، فقليل ما هم من أقروا بالأصول الإسلامية لبعض النظريات القانونية الحديثة () أما الكثرة فسادرة على فكرة المنهج الانتقائى للترجمة عن العربية، وأنها انصرفت إلى العلوم الفلسفية والطبيعية، ولم تنل من علوم الشريعة شيئا.

وقد برر المتأخرون هذا الانصراف () بأن الثورة القانونية فى العصر الوسيط كانت تنبعث من ثورة العقل، ومبنى التشريع الإسلامى على النقل والتمسك بالنصوص، فلا مجال للعقل أو الاتساق مع القانون الطبيعى، ولا محل لاعتبار المصلحة.

ويقولون أن الفكر الدينى والقانون الإسلامى لم يتمكن إقامة مبادئ عامة للمساواة والعدالة، وافتقر إلى الأساس الذى يقوم عليه التشريع من سيادة مطلقة للمشروعية، وذلك نتيجة قيام النمط المذهبى الفقهى على أساس ألا تتكامل المدارس الشرعية للتفكير للتغلب على تنافر النصوص المختلفة. وأن النزعة الشخصية والفردية غالبة فى طبيعة القانون الإسلامى حتى فى جرائم القتل، " وإنما يهتم الإسلام بالجرائم المتصلة بالدين والجرائم ضد الله – هكذا – وهى جرائم تستحق الحدود، ولقد تناقض الاهتمام بمجال الأضرار الشخصية ما دامت الشريعة لا تعرف معنى الإهمال ".

ويقولون: إن قانون الجزاءات، والمدونة الإسلامية فى مسائل الإرادة العامة – القانون العام – غير ملائمة إطلاقا للعصر الحديث.

والحاصل:

أن القانون الإسلامى نموذج للتجزؤ، وقد كان الغرب يتلمس نموذجا عالميا يتأسس على مستويات عالمية تنسق مع القانون الطبيعى والعقل الطبيعى، لذا فمن غير المعقول أن يكون أى من عناصر القانون الغربى راجعا إلى الإلهام الإسلامى ().

ويتحصل من هذا أمران:

أولهما:

أن الغرب لم يتعرف على الشريعة الإسلامية لينتفع بها فى نهضته القانونية.

ثانيهما:

أن ما انتهت إليه نهضة الغرب القانونية يكشف عن الاختلاف الجوهرى فى المنهج والروح عن القانون الإسلامى للأسباب التى ذكرتها آنفا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير