ويمكن أن نرصد بعض مظاهر الحقيقة العقلية العربية فيما يلى:
أولا: انتشار التعليم وتحديثه:
وقد ذكر توبى هاف نفسه أن الغرب كان يفتقر إلى تصور عن القانون بأحكامه وأفكاره، وقد أخفقت أوروبا أن تقيم تقاليد فكرية خارج نطاق الكنيسة، وعلى ما ذكر فإن ذلك تحقق فى القرن الثانى عشر وما بعده.
والحقيقة أن تاريخ العلم المدنى وتحديث المعارف أقدم من ذلك، إذ ما إن ارتقى تلميذ العرب الشهير البابا سلفستر الثانى كرسى البابوية عام 999م حتى أنشأ مدرستين للعلوم العربية، واحدة فى روما، وأخرى فى ريمس بألمانيا، وهو أول ناقل للأرقام العربية. ().
وفى القرن العاشر الميلادى كذلك أنشئت فى سالرنو، فى جنوب غرب إيطاليا على مبعدة أميال من روما، مدرسة للطب يدرس فيها أساتذة مسلمون أو مستقدمون من بلدان الإسلام. ()
وفى مستهل القرن الثالث عشر أنشئت عدة مدارس وجامعات للعناية بالعلوم العربية، يهمنا منها بوجه خاص جامعة نابولى لترجمة الكتب العربية وتدريسها، وقد أنشأها فردريك الثانى وأهداها من مقتنياته كتب الطب والفلسفة العربية ()
ولجامعة نابولى مكانة خاصة لأن ارتباطها بفردريك الثانى يثير جملة من الاحتمالات سنعود إليها لاحقا، كما أنشئت فى جنوة مدرسة لتعليم العربية، وفى مونبلييه بجنوب فرنسا كلية للطب نافست جامعة سالرنو، ومادة التعليم فى كليهما تعتمد على علوم العرب.
وإجمالا فإن تحديث التعليم أدى إلى:
1 - إدخال العلوم المدنية فى المدارس والجامعات التى انتشرت بشكل ملحوظ خارج الأديرة.
2 - ظهور التخصص وبالذات فى الإسلاميات، وقد " أصبح جزءا عضويا من العلم ومن الأيدولوجيا وثقافة المجتمع الأولى " ().
3 - استخدمت مصنفات المؤلفين المسلمين بوصفها ذات أهمية مدرسية عالية القيمة بالنسبة للاهوتيين الكاثوليك () ولا شك أن هذا انقلاب على التعاليم البولسية.
4 - ظهر فى أوروبا نظام المؤهل الدراسى تحت مسمى الليسانس وهو الترجمة للفظ الإجازة أو الرخصة، وتمنح بعد اختبارات شفهية كما هو معروف عند المسلمين ().
ومدارس الشرق وجامعاته فى مصر وبغداد والكوفة والمدينة المنورة وغيرها معروفة مشتهرة، أما فى الغرب الإسلامى – الأندلس – فقد أحصى بعض الباحثين مدارس غرناطة فقط فى 17 مدرسة كبرى، 120 مدرسة صغيرة، 27 مدرسة مجانية، ومما يدل على رقى الأندلس التعليمى تلك الرسالة التى بعث بها جورج الثانى ملك إنجلترا وفرنسا والنرويج إلى الخليفة هشام الثالث (تولى 1028 - 1032م) وفيها يقول:
" بعد التعظيم والتوقير سمعنا عن الرقى العظيم الذى تتمتع بفيضه الصافى معاهد العلم فى بلادكم العامرة، فأردنا لبلدنا اقتباس هذه الفضائل لنشر أضواء العلم فى بلادنا التى يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقتنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز. خادمكم المطيع جورج " ().
وأقل ما تدل عليه هذه الرسالة أن العلوم الإسلامية عرفت طريقها إلى مختلف أوربا من قديم، وأن المدارس الإسلامية فى الأندلس كانت تفتح أبوابها للرجال وللنساء على السواء.
ثانيا: العناية بالتطبيقات العملية فى الدراسات القانونية:
ومثالها بوجه خاص شروح مدرسة المحشين اللاحقين - مدرسة بولونيا- وقد اضطرهم صنيعهم إلى تعديل بعض قواعد القانون الرومانى () وفى ذلك يقول الأستاذ الدكتور عز الدين عبد الله " هؤلاء الفقهاء وهم يبحثون عن حلول تنازع الأحوال لم يلتزموا مبدأ معينا يخرجون عليه الحلول، بل راحوا - وأغلبهم تولوا القضاء -يضعون الحلول لمختلف حالات تنازع الأحوال كل على حدة، ويهدفون دائما نحو الحل العادل المعقول الذى يتفق وحاجة المعاملات الخارجية فيما بين المدن ……
على أن مراعاة العوامل الثلاثة المتقدمة: العدالة، وهدى العقل، وحاجة المعاملات كان من شأنه أن باعد هؤلاء الفقهاء بين النصوص وحقيقة معانيها، إذ حملوها أكثر مما تحتمل، بحيث صار الكثير من الحلول التى وضعوها، وليد قدح الذهن أكثر منه وليد تفسير النصوص " ().
وعلى ما يقول سيادته فإن الدراسات أظهرت أن الحلول التى أقرتها هذه المدرسة انتهت إلى:
أ – اعتبار قانون القاضى فى إجراءات التقاضى، والإثبات.
ب – اعتبار قانون المحل فى شكل العقد واعتبار الدليل.
¥