ومنذ عهد الناصر أخذ يشتد نفوذ الصقالبة فى شئون الإدارة والحكم فضلاً عن القصر والخاص ويعهد إليهم بالمناصب الكبرى فى القصر والإدارة والجيش، وما لبث أن سما شأنهم وتوطد سلطانهم، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة … .. وكان منهم الحرس الخلافى، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم فى السلطان والنفوذ ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم .. بل كان منهم فى عهد الناصر قائد الجيش الأعلى " نجدة " ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم " أفلح " صاحب الخيل، و " درى " صاحب الشرطة ومنهم " ياسر " و " تمام " صاحبا النظر على الخاص، وكان لهذه السياسة أسوأ الأثر فى انحلال الجيش، وفتور قواه المعنوية، مما أدى إلى هزيمة الناصر فى ألانديجا عام 327هـ" ()
ولسنا نعنى هنا بالأثر السئ لهذه السياسة فى إدارة شئون البلاد، ولكنا إذ نأخذ فى الحسبان أن الخلافة الأموية بالأندلس قد انهارت فى أواخر القرن الرابع، وقامت على أنقاضها دول الطوائف الصغيرة، وفى القرن الخامس سقطت طليطلة أول قاعدة أندلسية كبيرة فى يد أسبانيا النصرانية (478هـ – 1085م) فإنا لنتساءل عن مصير أولئك الصقالبة فى ظل هذا الخطر القوى الذى تهدد الأندلس عموماً، والأجانب وحاشية الأمراء المغضوب عليهم خصوصاً.
ألا يتصور أن يفر هؤلاء الأسبان والألمان، والفرنجة، واللومبارد، والإيطاليين إلى مجتمعاتهم الأولى، أو أن يجتذبهم أهلها إليهم، لاسيما وأن من الحتم أن منهم من بقى على دينه الأول؟ ()
وما دامت مجتمعاتهم الأولى متبربرة همجية - كما ذكر المؤرخون - فهل يغفل ولاتها عن معارف هؤلاء وهم قادة الجيش، وأصحاب الشرطة، و أصحاب الخيل والنظر؟ وإن غفلوا فهل يقعد هؤلاء عن طلب المجد والسؤدد، وقد كانوا أصحاب الصدارة فى المجتمع الراقى؟.
لقد قال ديوارنت " وأغفلت إيطاليا تحت حكم اللومبارد، وغالة تحت حكم الفرنجة، وإنجلترا تحت حكم السكسون. وأسبانيا تحت حكم القوط أغفلت هذه البلاد كلها أوامر جوستنيان " () إذن فما هى الأوامر المرعية؟ أيبعد أن تكون آداب الإسلام التى ربى عليها ومارسها الإداريون الصقالبة؟.
ومن جانب آخر فإن شاخت ذكر من بين ما ذكر أن الصيغ العربية فى الوثائق والعقود ظلت إلى ما بعد سقوط طليطلة بحوالى قرنين من الزمان، وطليطلة دون قرطبة – رأس الحكم – دون شك.
وكل ذلك يحتم على المشرعين المولعين بحكمة " السادة العرب " النزاعين إلى احترام العقل ومراعاة الأعراف، ونقد القانون الكنسى أن يكون لهم مثال مرعي اكتسب صلابة وقوة واحتراما.
صقلية ودورها فى النهضة الأوربية:
بعض الغربيين قالوا " فى صقلية ولدت أوربا " () ومعروف أن صقلية شرفت بالحكم الإسلامى قرابة ثلاثة قرون تمكن فيها النظام والسلوك الإسلاميين لدرجة جعلت النورمان الغزاة ينكثون بمعاهدتهم مع البابا فى إحلال التقاليد المسيحية محل التقاليد الإسلامية، وأصبح المنتصرون عبيدا للمغلوبين.
وبفضل النظم الإسلامية، والإداريين المسلمين، والاتصال الوثيق بعلماء الإسلام أصبح ملوك صقلية هم ملوك أوربا، حتى قيل عن روجر الثانى (1110 - 1154) إن مملكته هى أول دولة عصرية حديثة، وأنه تمكن وهو أًصغر ملك فى أوروبا أن يصير أغناهم، وذلك بفضل العرب ومهارتهم فى الزراعة، ونشاطهم فى الصناعة، ونظامهم المثالى فى الضرائب والاقتصاد، وبواسطة المسلمين أسس الكثير من المدارس العالية، التى بثت علوم المسلمين فى كل أنحاء إيطاليا وبقية البلاد الغربية ().
وبقى السمت الإسلامى غالبا على صقلية حتى إن ابن جبير ليروى عن حاكم صقلية فى العام 1185م – أى بعد أكثر من قرن من خروج المسلمين منها – أنه يتشبه بالمسلمين فى ترتيب قوانينه، ووضع أساليبه " ().
وقد عمدت الكنسية إلى التخلص من النورمان وأحلت محلهم الجرمان عساهم يكونون أحرص على التقاليد المسيحية التى لفظها النورمان، وشاءت إرادة الله أن تقر البابوية على رأس صقلية الإمبراطور فردريك الثانى " تولى 1220 – 1250 "، وعاهدته على أن يوافق على توسيع الدولة الكنسية على حساب الإمبراطورية، وأن يمتنع عن التدخل فى الانتخابات الأسقفية فى ألمانيا.
¥