إذا كان الحنفية قد أبطلوا دليل الخطاب، وهو مفهوم المخالفة في نصوص الشريعة؛ فإنهم طردوا ذلك فأبطلوه في شروط الواقفين وألفاظهم بناء على أن نص الواقف كنص الشارع، وقد خالفهم في ذلك جمع من متأخريهم، وحققوا أن دليل الخطاب معتبر في كلام الناس.
قال ابن عابدين في "رد المحتار" (4/ 434): ( .. وحيث كان المفهوم معتبراً في متفاهم الناس وعرفهم وجب اعتباره في كلام الواقف أيضاً؛ لأنه يتكلم على عرفه) أهـ كلامه.
لفظ الواقف كنص الشارع في الفهم والدلالة:
وإذا تقرر هذا فمن المعلوم أن اللغات ـ حتى الأعجمية والعامية منها ـ إنما يُبنى فهم مقاصد المتكلمين بها على قواعد مشتركة يُعتبر فيها النص والظاهر والمجمل والمبين والعام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ ومباحث اللغة؛ كالاشتراك والترادف والتضاد والترتيب والفور والتراخي والاستثناء، وكذلك المنطوق والمفهوم مخالفاً وموافقاً.
وكلام الناس هذا: منه ما هو ظاهر الدلالة يشترك الناس أو أكثرهم في فهمه ومعرفته. ومنه ما هو خفي الدلالة.
وقبل النظر في الدلالة تُعتبر أحكام ثبوت هذه الشروط؛ كالتواتر والعلم والظن والشك والوهم.
ثم النظر فيما يتعارض من كلام الواقفين في ابتداء الوقف وشروطه، وما ينتهي إليه الناظر فيها من الجمع أو النسخ أو الترجيح.
وكذلك ما قيل في شروط العرف؛ كاعتبار العرف السابق والمقارن؛ فلا عبرة بالعرف الطارئ، وكذلك اعتبار الغلبة والاطراد.
فصارت مباحث أصول الفقه وقواعده هي طريق فهم كلام الناس، ولهذا قال العلماء: إن نص الواقف كنص الشارع، من حيث الفهم والدلالة.
ولهذا ترى أن العلماء قد اختلفوا في تفسير مقاصد الواقفين في شروطهم كاختلافهم في تفسير الكتاب وشرح السنة وفقههما.
ومن تكلم في هذه المسائل باجتهاد وعلم معتبراً هذه القواعد معولاً على الأعراف الدارجة ـ فيما يُحكَّم فيه العرف ـ فهو بين أجر وأجرين.
وأكثر شروط الواقفين ظاهرة جلية، وما أشكل منها: فإن أولى الناس بتحرير مقاصدهم من شروطهم العلماءُ المتمرسون في دلالات الألفاظ؛ كالمتخصصين في علم أصول التفسير، وأصول الفقه، والقواعد الفقهية.
وانظر في اعتبار نصوص الواقف كنصوص الشارع في الدلالة: "الفتاوى" (2/ 13) للسبكي"، وإعلام الموقعين" (1/ 238) لابن القيم، و"الفتاوى الفقهية الكبرى" للهيتمي (3/ 267)، و"البحر الرائق" (5/ 266) لابن نجيم.
أمثلة وفروع على اعتبار بعض هذه القواعد:
بنى العلماء على ذلك فروعاً كثيرة:
منها: ما ذكره القرافي في "الفروق" (1/ 189) من تسويغ انتفاع غير الموقوف عليه في المدة اليسيرة؛ كأهل المدارس والرُبُط؛ فإنه يجوز لهم إنزال الضيف المدة اليسيرة؛ لأن العادة جرت بذلك؛ فدلت العادة على أن الواقف يسمح في ذلك.
ونحوه في "الفتاوى الفقهية الكبرى" (3/ 285) لابن حجر الهيتمي.
ومنها: ما ذكره في الهيتمي في المرجع نفسه " (3/ 278) من عدم الحاجة إلى إذن الناظر الخاص في استعارة الكتاب الموقوف؛ إذا جرت به عادة، وأن العرف المطرد في زمن الواقف إذا علمه يكون بمنزلة شرطه؛ فيُتَّبع ذلك.
ومنها: ما جاء في "أسنى المطالب" (2/ 452) نقلاً عن ابن عبد السلام أنه لو شرط واقف المدرسة أن لا يشتغل المعيد فيها أكثر من عشرين سنة، ولم يكن في البلد معيد غيره: جاز استمراره وأخذه المعلوم ; لأن العرف يشهد بأن الواقف لم يُرِدْ شغور مدرسته، وإنما أراد أن ينتفع هذا مدة، وغيره مدة.
ومنها: ما ذكره ابن عبدالسلام في "القواعد" (2/ 134) من أن وقت التدريس محمول على البكور؛ لاطراد العرف بذلك , فلو أراد المدرس أن يذكر الدرس في الليل مُنع من ذلك.
ومنها: ما ذكره السيوطي في "الأشباه والنظائر" (92) أن المدارس الموقوفة على درس الحديث , ولا يعلم مراد الواقف فيها , هل يُدرَّس فيها علم الحديث , الذي هو معرفة المصطلح؟ فقرر رحمه أن المعتبر في ذلك هو العرف.
ومنها: ما ذكره الزركشي في "المنثور" (2/ 395) والسيوطي في "الأشباه والنظائر" (1/ 97) من جواز بيع وإهداء كسوة الكعبة؛ إذا كانت من الأوقاف التي أُوقفت بعد جريان هذه العادة، وعدم جوازه من الأوقاف التي لم تسبقها أو تقارنها هذه العادة.
¥