ومنها: ما ذكره الفتوحي في "شرح الكوكب المنير" ص (649) نقلاً عن تقي الدين في تقديم التنبيه على النص حيث قال ( .. فإنَّ نقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف: تنبيه على أنه يُنقل إلى ولده إن كان حينئذ له ولد؛ فالتنبيه حينئذ: دليل أقوى من النص , حتى في شروط الواقفين) أهـ.
ومنها: ما ذكره الحموي في "غمز عيون البصائر" (1/ 424)، وكذلك ابن عابدين في "رد المحتار" (4/ 444) من اعتبار قواعد التعارض والنسخ والترجيح في شروط الواقفين.
6. المبحث الثالث: الشروط الباطلة
يسعى الواقفون إلى وضع بعض الشروط حفاظاً على أغراضهم من الوقف، ويوجد في شروطهم ما لا يصح اشتراطه، ويُمنع مريد الوقف من عقده ابتداء، وإذا اُشترط وقع الشرط باطلاً، وذلك إذا كان محرماً في الشريعة، أو مخالفاً لمقاصدها:
ومن أمثلة هذه الشروط: الوقف على محرم العين كخمر أو خنزير، أو كان إعانة على باطل أو إثم أو عدوان؛ كالوقف على كنيسة، أو على فعل محرم؛ كبدعة.
وكل شرط يُخل بمقاصد الشريعة في رعاية الوقف: كشرط أن لا يُعزل الناظر ولو خان، وأن لا تحاسبه الدولة؛ فلا اعتبار له.
اشتراط ما يفضي إلى مفاسد:
ينص الواقف في شروطه على أن يكون المستحق للوقف على صفة معينة، وكثيراً ما تكون هذه الصفات مفيدة؛ لكونها تحفز على تحقيق هذه الصفة، أو يتحقق بها مقاصد عظيمة للشريعة؛ كالوقف على المجاهدين وطلاب العلم، ونحوها من الصفات.
تمييز الواقف بين الناس بسبب مذاهبهم الفقهية:
ولكن العصور التي شهدت انحطاطاً أفرزت أنواعاً من الشروط وضعها الواقفون حين كانوا يعيشون أجواء التعصب العلمي، أو مشاحنات الاتجاهات الصوفية؛ فأصْبَحتَ تسمع عن شروطٍ لاستحقاق منافع الوقف؛ كانتحال مذهب معين، أو طريقة صوفية محددة؛ حتى بلغ الأمر ببعضهم أن اشترط لهذا الاستحقاق لبس ثياب موصوفة وشارات منعوتة؛ ليثبت انتسابه لشيخ الطريقة وخضوعه له.
ولا ريب أن الصفة إذا كانت سبباً ظاهراً للمشاحنات والتباغض؛ فإن اشتراطها يُعتبر ساقطاً لا احترام له؛ فكيف إذا انضم إلى ذلك كونها عرقلة لحركة الاستدلال، ومانعاً للنظر والتأمل، ولجاماً للسان الحقيقة؟
وإذا شئت أن تتصور مقدار ما عليه الناس في تلك العصور، وما سببته هذه الشروط من فرقة، وحجر على النظر والاستدلال؛ فاقرأ كلام من عاش فيها:
يقول ابن أبي العز الحنفي في "الاتباع" (1/ 89) عن قصة حدثت أيام الملك الناصر صلاح الدين يوسف ذكر فيها قيام فتنة بين المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية بلغت حد الاستعانة بجماعة من أرباب السيوف، وأنهم بسطوا ألسنتهم بالمنكر من القول، ثم ذكر خطر التعصب إلى أن قال:
( ... وقد قيل إن سبب استحكام هذا الافتراق شروط الواقفين في المدارس؛ فإنهم لما شرطوا أن تكون هذه المدرسة على الطائفة الفلانية، وهذه المدرسة على الطائفة الفلانية تمسكت كل طائفة بما ذهبت إليه وأعرضت عن غيره لئلا يُحرم ذلك الوقف، وانضم إلى ذلك شبهة صحة هذه الشروط وأمثالها، والقول بأن شرط الواقف كنص الشارع؛ فلما انضمت الشبهة إلى الشهوة استحكم الداء وغالب الواقفين جهالٌ إنما يحملهم على تعيين تلك الطائفة التي عينها كل منهم مجرد العصبية لتلك الطائفة وإمامها، وأصل مقصودهم صحيح، وهو إحياء
علم الشريعة؛ فيصح تخصيصهم العلماء بذلك الوقف، ويبطل تخصيصهم الطائفة الفلانية منهم؛ لأن الواجب عرض شروط الواقفين على الشريعة؛ فما وافقها
قُبِل وإلا رُدَّ .. ) أهـ.
وقد جاء في "الفهرس" (2/ 1036) لعبدالحي الكتاني قول الولي العراقي: قلت لشيخنا الإمام سراج الدين البُلقيني: ما يَقْصُر بالشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته؟ وكيف يُقلِّد؟ فسَكَتَ! فقلت له: ما عندي هو أن الامتناع للوظائف التي قُرِّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأن من خرج عن ذلك، واجتهد: لم ينله شيء، وامتنع الناس من استفتائه؛ فيُنسب للبدعة؛ فتبسم، ووافقني على ذلك) أهـ.
¥