إن منشأ شرعية الوقف وسبب لزومة هو الشريعة على وجه لا نظير له؛ حيث شَرَعت له هذا الحكم وهو اللزوم دون سائر الإنشاءات والعقود جائزةً ولازمةً؛ فالعقود ولو كانت لازمة: يمكن التحلل منها إذا تقايل العاقدان، والجائزة يمكن التحلل منها حتى دون رضا الطرف الآخر؛ كالجعالة في بعض أحوالها، والوصية يمكن تعديلها وإلغاؤها من قبل الموصي؛ فبأي شيء لزم الوقف؟ إن قلنا بإلزام الواقف فقط. قيل: إن هذا لا نظير له في الشريعة: وهو أن يُلزم المرء في معاملة أو عادة دون معنى معقول على التفصيل، ودون أن يمكنه الرجوع عنها، وإن قلنا الإلزام من جهة الشريعة فإن معهودها أن لا يُلزم بشئ من جهة الشرع إلا ما فيه معنى القربة وظهور النفع، ونظير هذا هو النذر فهو من طرف واحد ويُعتبر لازماً، ولا يصح على مباح؛ وذلك بإجماعٍ حكاه ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 352)؛ فظهر بذلك اختصاص الوقف باللزوم دون بقية العقود والإنشاءات؛ فلُمح فيه بهذا معنى القربة؛ فعليه لا يُدخل في شروط الوقف إلا ما عُلم كونه مطلوباً للشريعة، والمباح المحض دون مرجح ليس مطلوباً لها.
ومع سهولة الخلاف في هذه المسألة؛ لقرب الأدلة من التكافؤ، ولندرة الوقف على مثل هذه الأوصاف بسبب حرص الواقف على تحصيل الأجر: فلا تخلو حكايته من فائدة هي أن يسعى الواقفون إلى تجنب الوقف على المباحات خروجاً من الخلاف، وأن تكون أوقافهم نافعة لهم في دينهم ودنياهم معاً، وأن نسعى إلى إحياء سنة الوقف التي كان عليها الصدر الأول، وهي الوقف على القربات، ووجوه البر.
الوقف على مكروه:
حقيقة المكروه أن للشارع مقصداً في تركه وترغيباً للناس في البعد عنه، وما دام أنه قد ترجح في المطلب الأول عدم مشروعية الوقف على مباح مستوي الطرفين؛ فإن المكروه أولى بهذا الحكم.
ولهذا قرر بعض العلماء؛ كما في "الإنصاف" (2/ 252) كراهة تقديم المفضول في الإمامة مع وجود الأفضل؛ ولو مع شرط واقف.
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز الوقف على مكروه، وجواز إنفاذه للنظار والحكام، وقاسوا ذلك على وجوب طاعة السلطان؛ وإن أمر بمكروه.
قال النفراوي في "الفواكه الدواني" (1/ 211): ( .. لأن شرط الواقف واجب الاتباع وإن كان بمكروه , وكذلك السلطان أو نائبه لوجوب اتباع أمره , وإن أمر بمكروه ـ على أحد قولين ـ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" فإنه يقتضي بمفهومه أن طاعة السلطان واجبة في أمره بالمكروه).
وقارن كلام صاحب "الفواكه الدواني " هذا بما جاء في "حاشية الدسوقي" (4/ 427) في كلام صاحب المتن في حرمة الإيصاء بمعصية؛ حيث قرر الشارح أن تنفيذ الوصية بالمكروه مكروه، وأن في تنفيذها بالمباح قولان، وأن المراد بالمعصية ما ليس بقربة.
ثم إن لقياسه رحمه الله جواباً وهو أن امتثال أمر السلطان واجب ما لم
يكن معصية هو بنص الشارع؛ فدخل المكروه فيما يجب امتثاله؛ لأنه ليس
بمعصية، أما كلام الواقف فليس بواجب الامتثال إلا فيما كان قربة؛ فلم ينعقد شرطه أصلاً؛ كما تقرر في الوقف على المباح؛ فلا يرد هذا على ما سبق تقريره.
وقد أبطل أبو حنيفة كما في "غمز عيون البصائر" (2/ 239) تعيين الواقف القراءة عند القبر؛ كونها مكروهة، وأن الواقف لو شرط هذا اُعتبر باطلاً؛ لأجل هذه الكراهة.
7. المبحث الرابع: الشروط الجائزة
كل ما عدا ما ذُكر من الشروط الماضية وهي الباطلة والمكروهة والمباحة
فهي شروط جائزة وحكمها الاستحباب؛ لأنها من القرب؛ كالوقف على قرابة أو فقراء أو حلق علم، أو سقاية ماء، أو ما كان من مصلحة الوقف؛ كتعيين ناظر وعزله.
التصرف في الشروط الجائزة:
تتعرض شروط الواقفين لتصرف المتولي أو القاضي بما لا يوافق نص الواقف في كتاب وقفه بأنواع شتى من التصرفات:
كتصرف يتعلق بعين الوقف بيعاً، أو إبدالاً، أو زيادة أو نقصاً ونحو ذلك.
أو يتعلق بالموقوف عليه؛ بصرفه إلى غيره، أو تغيير ترتيب الواقف استحقاق الموقوف عليهم.
أو يتعلق ببعض الشروط التي هي من باب سد ذرائع فساده، أو من باب وسائل إصلاحه؛ كأوصاف الناظر والمستحق للنظارة، وطرق صيانته، وأجرة الناظر، وأحكام عزله.
¥