وما من فقيه إلا ويرى مشروعية التصرف في شروط الواقف؛ وإن اختلف الفقهاء في حد ذلك تضييقاً وتوسعة.
التصرف رعاية لضرورة:
إذا كان تصرف المتولي لأجل ما يُخشى على عين الوقف من الفساد
أو الاضمحلال؛ فللمتولي في هذه الحال أن يُعرض عما في شروط الواقف إذا كانت تمنع هذا الإصلاح، وذلك حتى تُرفع حال الضرورة، ويُدرء الخطر المحدق بالوقف.
وإذ كان التصرف لا يقتضي تغييراً في بنية الوقف الأساسية؛ كالتصرف بالاستبدال فأكثر الفقهاء على جواز عمل ما يخالف شرط الواقف، ومثاله: إذا شرط أن لا تؤجر الدار أكثر من سنة ثم انهدمت , وليس لها جهة عمارة إلا بإجارة سنين؛ فقد رخص كثير من العلماء في مخالفة شرطه رعايةً لهذه الضرورة ونحوها؛ كما في "أسنى المطالب" (2/ 464)، و"إعانة الطالبين" (3/ 169)، و"منح الجليل" (8/ 170).
وقد جاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي (7/ 93) ( .. لا يُتَّبع شرطُ الواقف عدمَ البداءة بإصلاح ما انثلم من الوقف؛ فلا يجوز اتباعه ; لأنه يؤدي إلى بطلان الوقف من أصله؛ بل يبدأ بمرمة الوقف وإصلاحه ; لأن في ذلك البقاء لعينه والدوام لمنفعته .. ).
والفقهاء إنما رعوا بذلك أحكام الضرورات؛ كمداوة المريض بما له ضرر؛ إذا خيف على المريض من ضرر أكبر.
واشترط في "درر الحكام" (2/ 139) إذن المحكمة، وهو شرط حسن يتحقق به رعاية مصالح الوقف، ومقصد الواقف، ويسد ذرائع التلاعب بالأوقاف.
ومن الإضرار بالواقف والوقف ترك صرف معيناته بحجة تعذر وجود الموقوف عليه؛ كالوقف على نظافة الأنهار إذا جفت، ونحو ذلك.
فإن كان يُرجى وجود الموقوف عليه في وقت قريب عرفاً اُنتظر به، وإلا صرفه إلى مصرف مثيل أو قريب منه؛ فإن المقصد الأعلى للواقف نيل الأجر؛ فإن تعذر تحصيل الوصف المطلوب الذي هو من وسائل تحقيق ذلك المقصد: صُرف إلى مثله؛ فلا يُلغى مقصد لأجل وسيلة.
وانظر "بلغة السالك" (4/ 124) للصاوي.
أما استبدال العقار الموقوف عند تعطل منافعه بالكلية؛ فهو من رعاية ضرورات الوقف؛ وسيأتي قريباً إن شاء الله.
التصرف رعايةًً للأصلح:
تصرف الناظر رعاية الأصلح تُتَصور في مقاصد الواقف من وقفه؛ كجنس المنفعة، وفي أعيان الموقوف عليهم. كما تُتصور أيضاً وفي وسائل تحصيل مقاصد الوقف ومنافعه.
فمثالها في الوسائل: نقل العين الموقوفة ـ إذا كانت تجارية ـ إلى مكان ذي ريع أكثر؛ دون المساس بما نص عليه الواقف في مصارف الوقف.
وفي المقاصد: تغيير المصرف الذي نص عليه الواقف من جهة معينة إلى جهة أنفع للواقف في الأجر والمثوبة؛ كتغييره من توزيع الكتب في منطقة نص الواقف عليها أهلها أغنياء، والجهل فيها قليل إلى منطقة فقيرة إقبال الناس فيها أكثر، وحاجتهم أعظم؛ وغير ذلك مما تظهر خيريته.
للعلماء في ذلك اتجاهان مشهوران:
الأول: المنع من التصرف في شرط الواقف ونصه في عين الوقف ومصرفه، وسائر شروطه بلا ضرورة، وإنما لمطلق المصلحة، وعليه أكثر أهل العلم. وانظر في ذلك "مغني المحتاج" للشربيني (2/ 393) "، والإنصاف" (7/ 57) للمرداوي.
واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إن شئت حبست أصلها , وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث".
وكذلك بما ذكره العلماء في شروط الواقفين، وأنها كنص الشارع في وجوب العمل بها، وقد مضى في أول البحث تأصيل هذه القاعدة.
والاتجاه الثاني: اعتبار المصلحة الظاهرة في أي تصرف في العين نقلاً واستبدالاً وتغييراً لمعالمها واسمها، أو في المصارف والموقوف عليهم؛ ولا يكون نص الواقف مانعاً من هذا التصرف؛ ما دام أنفع للجهة الموقوف عليها، وأعظم أجراً للواقف.
وهو أحد قولي الإمام أحمد في نقل المسجد للمصلحة؛ كما في "المغني" (5/ 368) لابن قدامة.
واختار هذا القول وهو اعتبار المصلحة في كل تصرف جمع من العلماء منهم ابن تيمية والشوكاني، وأنقل لك يعض كلامهما في هذا المقام.
قال الإمام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (4/ 509): ( .. ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه؛ وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان؛ حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صُرف إلى الجند).
¥