وقال في المرجع نفسه (4/ 510): ( .. وإذا وقف على الفقراء فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة , وإذا قُدِّر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجباً , وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفاية أقارب الواقف من غير ضرورة تحصل لهم: تعين ذلك).
وقال الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" (3/ 336) ( .. قد تقرر أن الوقف ملك لله محبس للانتفاع به، وما كان هكذا فلا يُنظر فيه إلى جانب الواقف إلا من جهة العناية بمصير ثواب وقفه إليه على أكمل الوجوه وأتمها، مهما كان ذلك ممكناً، ومعلومٌ أن الاستبدال بالشيء إلى ما هو أصلح منه باعتبار الغرض المقصود من الوقف والفائدة المطلوبة من شرعيته حسن سائغ شرعاً وعقلاً؛ لأنه جلب مصلحة خالصة عن المعارض، وقد عرفناك غير مرة أن من عرف هذه الشريعة كما ينبغي وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، وها هنا قد وجد المقتضي وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية، وانتفاء المانع، وهو وجود المفسدة؛ فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال).
والذي يظهر من كلام الإمامين أن الأصل منع التصرف في شروط الواقفين إلا إذا ظهرت مصلحة أكبر للوقف أو الموقوف عليهم؛ فإن ظهرت جاز للمتولي أن يصير إليها.
وهذا ما يفترق فيه عمل ناظر الوقف عن عمل من يتولى الأموال العامة
من السلاطين؛ فتصرفهم مطلقٌ في الزمان والمكان والأشخاص وجنس المنفعة. واختيارُ أي منها إنما ينشأ من الوالي نفسه، ولا قيود عليه إلا رعاية مطلق المصلحة؛ بخلاف الناظر فهو مقيد بكتاب الوقف؛ ما لم تظهر مصلحة أعظم فيجوز له التصرف بناء عليها.
وهذا الاختيار الذي مال إليه الإمامان متوائم مع أصول الشريعة ومقاصدها؛ كما أنه متوافق مع مقاصد الواقفين.
الوقف ليس تعبداً محضاً:
والمتأمل في الوقف يرى أنه ليس من جنس التعبدات المحضة التي لا يُعمل فيها إلا بالنص؛ بل هو من جنس الوسائل لتحقيق مقاصد الواقفين، والقاعدة في الوسائل هي مشروعية التصرف وفق ما تقتضيه الغاية المقصودة.
إن السمة الرئيسة للعاديات أنها معقولة المعنى على التفصيل معروفة المصلحة، وسمة التعبدات المحضة؛ كالصلاة والصوم والحج أنه لا يُعقل لها معنى إلا على الإجمال.
قال الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 329): (ثبت في الأصول الشرعية أنه لابد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه؛ فهو المراد بالتعبدي وما عُقل معناه وعرفت مصلحة أو مفسدته فهو المراد بالعادي).
وقال في المرجع نفسه (1/ 238) عن تبليغ الشريعة: ( .. والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة ـ لأنه من قبيل معقول المعنى ـ فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة، وكذلك لا يتقيد حفظه عن الزيغ والتحريف بكيفية دون أخرى).
وقال (2/ 397) في الوسيلة الواجبة وهي تدوين العلم: ( .. كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة؛ فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كَتْبٍ مطرداً لصح ذلك) أهـ.
والوقف معلوم المصلحة معقول المعنى على التفصيل؛ فليس فيه ما في التعبدات المحضة مما لا يُعقل له معنى إلا على الإجمال؛ كزمن العبادة في الصوم والصلاة والحج، ومكانها كالحج، والأعداد المفصلة فيها؛ كعدد الركعات، وعدد الجمرات، وعدد التسبيحات.
فلما لم يوجد في الوقف شيء من سمات العبادة المحضة من اعتبار زمان أو مكان أو عدد أو هيئة معينة على وجه لا يُعرف مقصوده على التفصيل، ولا تُدرك مصلحته: دل ذلك على أن الوقف ليس تعبدياً محضاً؛ بل هو معقول المعنى معروف المصلحة؛ فصار اعتبارها فيه، وإجراء القياس عليه أمراً صحيحاً، لا مطعن فيه.
ومما يقوي هذا القول: الإجماع على جواز بيع الفرس الموقوفة على الغزو إذا كبرت؛ فلم تصلح للغزو، وأمكن الانتفاع بها في شيء آخر؛ مثل أن تدور في الرحى، أو يُحمل عليها تراب.
وبأن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نُقب بيت المال الذي بالكوفة (أي فُتح فيه نقب من جهة المسجد لسرقته) قال: انقل المسجد الذي بسوق التمَّارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد.
¥