4. أنه إذا كانت للمرء سلطة إصدار الأنظمة والتعليمات فله إصدار أوامر بمنع ما يراه باطلاً؛ لأن للحاكم أن يقيد المباح المتفق على إباحته لمصلحة؛ فبالأولى إذا كانت المسألة محل اجتهاد في صحتهاوبطلانها.
ولا يعني اعتقاد حكم شرعي استباحة العرض أو الظهر لمن خالفنا فيه.
كما لا يعني إبطال العقود والإنشاءات أو الامتناع عن توثيقها؛ لمجرد أنه يقول ببطلانها.
وليس للمخالف في صحتها أن يقول: إن هناك أمراً من رب العالمين بذلك؛ فكيف أخالفه؟ أو أن يقول: لا يجوز أن أعمل ـ بمقتضى الديانة لله تعالى ـ خلاف قناعتي؛ لأنه يُقال له: إن هذا اجتهاده هو، ولا يكون هذا الاجتهاد ملزماً للآخرين.
وقد كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ولاة لدولة الخلافة؛ فهل كان الوالي لا يُجري إلا ما يراه في الأمور الاجتهادية؟ أو أنه يلتزم رأي
الإمام وإن خالف رأيه؟ الأظهر هو ترك اجتهاداتهم ـ في أمور الولاية ـ لاجتهاده.
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله لا يرى شرعية القنوت في غير النوازل، ولكنه كان يقنت خلف من يفعل ذلك؛ كما كان يرى بطلان صلاة من أكل لحم إبل دون أن يتوضأ، ولكنه صلي خلف من لم يتوضأ من أكله.
والصحابة كانوا يختلفون في مثل هذه المسائل مما يُعد مبطلاً للصلاة أو غير مبطل، وكان بعضهم يصلي خلف بعض دون نكير.
وإذا كانت صلاة الإمام والمأموم تَبْطُل بالمتفق بينهما على كونه ناقضاً: فلا شك أن تصحيح السلف صلاة المأموم في المختلف فيه منها ـ رغم مخالفته رأي إمامه ـ دليل على إمضاء اجتهادات الآخرين في محل الاجتهاد؛ حتى وإن كان في أمور تتعلق بأفعال المكلف نفسه؛ كصلاته.
وفي هذا جواب لمن يعترض فيقول لا أمضي بيدي ما أعتقد منعه.
فعليه لا مانع من إجازة وتوثيق وإنفاذ شروط الواقفين محل الاجتهاد في صحتها، وإن خالفت رأي الناظر أو الموثق.
ومهما أجهدنا أنفسنا في تلمس الحدود والفواصل بين ما يسوغ فيه الاجتهاد
وما لا يسوغ فلن نصل إلى نتيجة في كل مسألة، ولكن ليكن البدل من هذا
هو الوصول إلى الفقه، ومعرفة أسباب الخلاف، وحجج المخالفين، وما جرى عليه العمل، واستقرت عليه المذاهب، ومعرفة فقه السلف في مثل هذه المسائل.
وانظر في الخلاف والعلاقة مع المخالف "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 453فما بعدها)، و"التنقيح" (3/ 436) لابن عبد الهادي، و"القول السديد" (1/ 139) للموري الحنفي، "ومواهب الجليل" (6/ 24) للحطاب، و"حجة الله البالغة" (1/ 335) للدهلوي، و"قواعد التحديث" للقاسمي (1/ 370).
9.
خاتمة بخلاصة البحث
اشتمل هذا البحث ما يلي:
توطئة: تضمنت إشارة سريعة إلى أهمية الوقف وآثارة في قوة الأمة
وتنميتها، وكذلك أصلُ مشروعية الوقف، ومجالات شروطه من الموقوف عليهم، والعين الموقوفة، والناظر وفاضل الريع.
كما تضمن المبحث الأول: مكانة شروط الواقفين في الشريعة، وكلام العلماء في وجوب العمل بنصوص الواقفين وشروطهم.
وأن تأصيل ذلك أن الواقف لم يرض بحبس ملكه لله تعالى وإخراجه من ملكه إلا بهذه الشروط، ومقتضى ذلك في سائر العقود أن الشرط إذا لم يتحقق بطل العقد وعاد المعقود عليه إلى صاحبه، ولا سبيل إلى ذلك في الوقف؛ فوجب اعتبار شروط الواقف في وقفه.
وحققت فيه أن عبارة: نصوص الواقف كنصوص الشارع في الفهم ووجوب العمل صحيحة.
ومن شنع على هذه الجملة من العلماء فإنما قصد ما عليه بعض الفقهاء من إعطاء قدسية لنصوص الواقف، وإن خالفت قواعد الشريعة ومقاصدها.
كما تضمن المبحث الثاني: مسألة المعتبر في دلالة ألفاظ الواقفين، وأهميتها؛ لما فيها من تحقيق إرادة الواقف، وما يترتب عليها من العدل بين الموقوف عليهم.
ثم ذكرت طريقة اعتبار دلالة لفظ الواقف، وأن للعلماء منهجين: الأول: اعتبار عرف الشريعة فيما له مصطلح شرعي، والثاني: اعتبار لغة الواقف وعرفه، وبينت أن هذا الأخير هو أرجح القولين.
وذكرت أن هذه المسألة ـ في أصلها ـ ضرورية ظاهرة؛ ولهذا بنى عليها العلماء في فهم ألفاظ الكتاب والسنة؛ فقرروا أن المعتبر في ذلك مصطلح الشارع؛ لأنه أقوى الدلالات على مراده؛ فإن لم يوجد له مصطلح فلغة العرب؛ لنزول القرآن بها؛ فإن لم توجد فعرف المخاطبين في ذلك.
¥