ثم من المعلوم أن جنس ما دل على القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس في عادتهم، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين ما عناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك، ولم تكن مساويةً لها، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه. فعلم أن عامة من يأخذ معاني القرآن من اللغة التي سمعها من العرب العرباء وباشرهم فيها أن يكون قائساً قياساً يحتمل الضد، وأن يكون ما فاته من الفارق أعظم مما أدركه بالجامع، وهذا برهان واضح، ولهذا كانوا يقولون ما ذكره عبد الرزاق في
(1/ 17)
تفسيره (1) عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير تعلمه العلماء، وتفسير لا يعذر أحد بجهله، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه فقد كذب.
الوجه الثاني: أن الدرجة الثانية أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظماً ونثراً، وكل ما تعتري نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيراً بالواقع، فيكون نقل ألفاظ اللغة ثم معرفة مرادهم من تلك الألفاظ يرد عليه أكثر مما يرد على معرفة مراد الرسول، لأن معرفة مراد الرسول توفرت عليه الهمم والدواعي، وصانه الله فهو محفوظ بحفظ الله ثم بالعادة العامة والخاصة، أكثر من معرفة مراد شاعر مادح أو راث أو هاج أو مشبب أو واصف ناقة أو امرأة أو فلاة أو مفتخر.
الوجه الثالث: أن الدرجة الثالثة أن يسمع اللغة ممن سمع الألفاظ، وذكر أنه فهم معناها من العرب، كالأصمعي فيما سمعه من الأعراب وذكر أنه فهم معناه. ومن هذا الباب كتب اللغة التي (2) يذكرون فيها معاني كلام العرب بألفاظ المصنفين، ومعلوم أن هذا يرد عليه (3) أكثر مما يرد على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال: إنه فهم معناه، وبينه لنا بعبارته.
الوجه الرابع: أن ينقل له كلام هؤلاء الذين الذين ذكروا أنهم سمعوا كلام العرب، ومن المعلوم أنه يرد على هذا من الأسولة أكثر مما يرد على نقل
(1/ 18)
الحديث.
الوجه الخامس: أن الدرجة الخامسة أن يعلّم اللغة بقياس نحوي أو تصريفي قد يدخله تخصيص لمعارض راجح، وقد يكون فيه فرق لم يتفطن له واضع القياس القانوني. ومن المعلوم أن هذا يرد علبه أكثر مما يرد على من تعلم المعاني الشرعية من القواعد الكلية التي وضعها الفقهاء.
وإذا كان الأمر كذلك فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن له طريق أصلاً إلا ما يرد عليه من الآفات أضعاف ما يرد على هذه الطريق، فلا يجوز له ترجيح غيرها عليها، فيكون أحد الأمرين لازماً له:
إما أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويعدل عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور الإيمانية والاعتقادات الراجحة والظنون الغالبة ما لا يوجد في غيرها إلى ما هو دونها في ذلك كله، بل يستبدل باليقين شكاً وبالظن الراجح وهماً، ويستبدل بالإيمان كفراً وبالهدى ضلالة، وبالعلم جهلاً، وبالبيان عياً، وبالعدل ظلماً، وبالصدق كذباً، وبالإيمان بكتب الله وبكلماته تحريفاً عن مواضعها.
وإما أن يعرض عن ذلك كله، ولا يجعل للقرآن معنىً مفهوماً، وقد قال الله تعالى: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [يوسف/2] فلا يعقله، وقال: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء/82] فلا يتدبره، وقال: {ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص/29]. فلا يتدبر ولا يتذكر، وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت/43] فلا يكون من العالمين العاقلين لها. وإذا سلك هذا
(1/ 19)
المسلك استطار شره وتعدى ضرره، فيلزم تعطيل معاني الكتاب والسنة وفتور الرسالة، إذ الرسول الذي لم يبين بمنزلة عدم الرسول، والكلام الذي بلغه الرسول ولم يعقل معناه يدخل في حد الأصوات المسموعة التي ليس فيها حروف مبينة للمعاني.
وقد ذم الله تعالى من كان حاله في كتابه هكذا، وجعلهم كفاراً بمنزلة الأموات، وحمد من سمع كلامه فعقله ووعاه، وجعل ذلك صفة المؤمن الحي، فقال: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون} [البقرة/171]، وقال تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} [الفرقان/73]، وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها} [محمد/24]، وقال تعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} [الأنعام/36]، وقال تعالى: {أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي} [الزخرف/40]، وقال تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة/7]، وقال تعالى: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [محمد/16]، وقال تعالى: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً} [النساء/155].
وإذا كان من عدل عما فسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون القرآن فأحد الأمرين لازم له: إما أن يعدل إلى تفسيره بما هو دون ذلك، فيكون محرفاً للكلم عن مواضعه، وإما أن يبقى أصم أبكم لا يسمع من كلام الله ورسوله إلا الصوت المجرد الذي يشركه فيه البهائم ولا يعقله. وكل من هذين الأمرين باطل محرم = ثبت تعين الطريقة النبوية السلفية
(1/ 20)
¥