تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكثير من الناس لا يجمع هذه الصفات الأربعة المذمومة، بل يكون منها خصلة أو خصلتان: إما الأمية وإما التحريف وإما الكتمان أو غير ذلك، ثم من كان مؤمناً لا يكون هذا حاله في جميع القرآن، لكن في بعضه أو في كثير منه، كما عليه طوائف من أهل الكلام ومن اتبعهم، وربما فعل ذلك في أكثر القرآن، كحال الفلاسفة من القرامطة والباطنية ونحوهم.

ثم اعلم أن طريقة التحريف لا تسلك ابتداءً، لأن تفسير الكلام بخلاف مقتضاه لا يقبله القلب إلا بموجب، بل تسلك ابتداءً طريقة الكلام والكتاب المضاف إلى الدين وليس منه، وهو ما يسمونه المعقولات التي هي المجهولات، ويجعلون ذلك هو الاعتقاد وأصول الدين التي أمر الله بها، والحكمة الحقيقية والعلوم اليقينية التي ينبغي للفضلاء تحصيلها، ويصدون الناس عن القرآن بالطريقة الأمية، ويتفاوضون فيما بينهم بطريقة التحريف.

ولهذا يقررون أن الادلة اللفظية لا تفيد اليقين، فإن هذا يمنع ما أمر الله به من عقله وتدبره والتفكر فيه، ويجعل الطريقة الأمية حجة،

(1/ 23)

إذ كان ذلك لا يفيد علماً ويقيناً. وطريقة التحريف تتقابل فيها الاحتمالات، فإنه إذا لم يكن إلى العلم بالمراد سبيل تعين الإعراض عن مراد القرآن، وهي الطريقة الأمية. قال الله تعالى: {وإن هم إلا يظنون} [البقرة/78]، {وما لهم بذلك من علم} [الجاثية/24].

ومما يجب أن يعلم أن من أعظم أبواب الصد عن سبيل الله وإطفاء نور الله والإلحاد في آيات الله وإبطال رسالة الله دعوى كون القرآن لا يفهم معناه، ولا طريق لنا إلى العلم بمعناه، أو لا سبيل إلى ذلك إلا الطرق الظنية. ولهذا يسلك هذا الطريق من نافق هنا من المتكلمة والمتفلسفة ونحوهم، فإنهم إذا انسد عليهم باب الرسالة والأخذ منها رجع كل منهم إلى ما يوحيه الشيطان إليه، {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام/121].

ثم إن القرآن إما أن يحرفوه، فيكونون في معناه منافقين يظهرون الإيمان بلفظه وهم بمعناه كافرون، وإما أن يعرضوا عن معناه فيكونوا به كافرين، كما قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه/123 - 126]. والنسيان تركها والإعراض عنها، وكذلك ترك استماعها وترك تدبرها وفهمها، وترك الإيمان بها والعمل بها، كل ذلك من نسيانها. وقراءة مجرد حروفها وحفظه أو استماع مجرد صوت القارئ بها لا يمنع النسيان المذموم، فلا بد من الإيمان الذي يتضمن معرفتها والعمل بها، وهذا وإن لم يكن واجباً على كل أحد في كل آية على سبيل التفصيل، لكن الإيمان بالله

(1/ 24)

أوجب مجموع هذا على مجموع الأمة.

فمن كان يرى أن الذي أمر الله به [إما] أن تكون الأمة كلها أمية لا تعقل معاني الكتاب، وإما أن يكون فيها من يحرفه بالتأويلات المبتدعة، فهو ممن يدعو إلا الإعراض عن معاني كتاب الله ونسيانها. ولهذا صار هؤلاء ينسون معانيه حقيقة كما ينسى اللفظ، فلا يخطر بقلوبهم المعنى الذي أراده الله ولا يتفكرونه، وهذا نسيان حقيقي لمعاني كتاب الله، وإن كان فيهم من يحفظ حروفه.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي والدارمي (1) وغيرهما: " هذا أوان يقبض العلم "، فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله! كيف يقبض وقد قرأن القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال: " إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما أغنت عنهم؟! ". بين صلى الله عليه وسلم أن وجود الكتب المسطورة والحروف المسموعة المقروءة بالأصوات المسموعة لا تغني من العلم شيئاً إذا لم يقترن بها فهمه وفقهه ومعرفته.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير