تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم ذكر خلفاء الرسل القائمين بحجج الله وبيناته، فقال: {لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته ". ومعلوم أن الله تعالى إنما أقام الحجة على خلقه برسله، فقال: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء/165]، فلم يبق لهم بعد الرسل حجة، وإنما تقوم الحجة في مغيبهم ومماتهم بمن يبلغ عنهم، كما قال: " لكيلا تبطل حجج الله وبيناته "، ولا تقوم الحجة حتى يبلغ اللفظ والمعنى جميعاً، إذ تبليغ اللفظ المجرد الذي لا يدل على المعنى المقصود لا تقوم به حجة، بل وجوده كعدمه. فالقائمون بحجة الله هم المبلغون لما جاءت به الرسل لفظاً ومعنىً، ولهذا قال: " وبيناته " وهي ما يبين الحق.

ثم وصفهم فقال: " هم الاقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ". فإنه قد ذكر أن من سوى هؤلاء جاهل أو مترف، والمرء عدو ما جهل، فيستوحش مما عداه وينفر عنه، كما يصيب المكذبين ببعض ما جاءت به الرسل من استيحاشهم لكثير منه لجهلهم به، وكما يصيب المؤمن بلفظ الجاهل بمعناه، وأما العلماء فكما قال الله تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو

(1/ 33)

الحق} [سبأ/6]. والمترف هو الذي ترك العمل بعلمه واستحسن ذلك، كما تقدم في وصف صاحب الاعتداء في كبره وشهوته. فأخبر أن هؤلاء علموا ما جاءت به الرسل، فأنسوا به وعملوا بذلك واستلانوا، فقال: " فاستلانوا ما استوعره [المترفون]، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ".

وهذه صفة أئمة الهدى من الصحابة والتابعين، كسعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، ومن بعدهم مثل الثوري ومالك وإبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض ونحوهم، وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد وعبد الله بن وهب وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والشافعي ونحو هؤلاء. ثم كان من أقوم هؤلاء بهذه المنزلة في وقته أحمد بن حنبل ومن يقاربه في ذلك، كإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وبشر بن الحارث الحافي وغير هؤلاء. فإن الإمام أحمد كما قال فيه أبو عمر النحاس الرملي (1) رحمه الله: " عن الدنيا ما كان أصبره! وبالماضين ما كان أشبهه! أتته الدنيا فأباها، والبدع فنفاها "، فهو من أعظم من أنس بما استوحش منه الجاهلون، واستلان ما استوعره المترفون.

وهؤلاء وأمثالهم من الأئمة كما قال الله تعالى فيهم: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة/24]. فأيهم كان أعظم يقيناً بآيات الله وصبراً (2) على الحق فيها كان أعظم إمامة عند الله من غيره، ومن مثل هؤلاء يؤخذ تفسير القرآن والحديث، كما


(1) انظر سير أعلام النبلاء (11/ 198) وفيه: أبو عمير بن النحاس.
(2) في الأصل: " صبروا".
(1/ 34)
قال أبو عبيد - وعلمه باللغة في الطبقة العليا، مع ماله من البراعة في بقية العلوم - لما ذكر تنازع أهل اللغة وعلماء الفقه والحديث في تفسير نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اشتمال الصماء، وأن بعض أهل الغريب فسره بالتجليل، وأن علماء الدين فسروه بإبداء المنكب، قال أبو عبيد (1): " والفقهاء أعلم بالتأويل "، والتأويل هو التفسير، وهو حقيقة المراد. يعني أن الفقهاء يعلمون ما عني بالأمر والنهي، لأن ذلك مطلوبهم، وأهل الغريب يتكلمون فيه من جهة اللفظ فقط وما تريده به العرب كما قدمناه.
وكذلك ذكر هلال بن العلاء الرقي -فيما أظن- أنهم لما سمعوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن العقر قال: سألنا فلاناً وفلاناً من أهل العلم باللغة فلم يعرفوا معناه، وأظنه ذكر أبا عمرو الشيباني وطبقته، قال: فقلنا: ارجعوا بنا إلى أهله، فجاؤوا به إلى أحمد بن حنبل، فسألوه فقال: كانوا في الجاهلية إذا مات فيه كبير ذبحوا عند قبره، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما فيه من تعظيم الميت الذي يشبه النياحة ويشبه الذبح لغير الله. ولهذا كره أحمد الأكل مما يذبح على القبور. قال هلال: فقلنا: وهذا والله العلم، ثم أنشد لبعض عرب الجاهلية (2):
وإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الركاب وكل طرف سابح
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير