اهتمامي بالتراث فاقترح عل ? ي أن يوفدني إلى إسبانية لوضع فهارس للمخطوطات العربية فيها. وكان
اقتراحًا ملأ نفسي فرحًا و?جة وصدر مرسوم بذلك. فسافر ? ت، وبدأ ? ت الاتصالات لوضع برنامج
لعملي، كما بدأت بتعّلم اللغة الإِسبانية. وقد لمس ? ت ما كان للعرب من فضل على تلك البلاد، فما من
قصر ولا حجر إلاَّ ويشهد بفضلهم. لك ? ن مقامي هناك لم يطل مع الأسف، فقد استقالت الوزارة وجاء
إلى الوزارة الجديدة وزير على خلاف مع ? سلفه العجلاني. فعمد إلى كل ما عمله فأبطله، وأ?ى إيفادي
بحجة أن هذا العمل غير ضروري. وكان ألمي شديدًا لكن الله ج ّ ل جلاله ي ? سر لي فرجًا. ذلك أنه كان
في القاهرة معهد للمخطوطات العرب?ية، وكان مديره الدكتور يوسف العش، وهو عالم سوري، قد أ?ى
عمله فيه. ف ? ر ? ش ? ح ? ت أن أكون مديرًا. وأ?يد الترشيح الرئيس فارس الخوري رئيس الوزراء، وسف ? يرنا في
مصر الدكتور نجيب الأرمنازي فوافق عبد الرحمن ع ? زام أمين الجامعة العربية على ذلك.
- قد لا يعلم الحاضرون شيئًا عن معهد المخطوطات. إ?نه عمل من أعظم الأعمال التي قامت ?ا
الجامعة العرب?ية. وكان هدفه إحصاء المخطوطات العرب?ية التي تركها أجدادنا، والموجودة في مكتبات
العالم، العامة والخاصة، وتصوير أكبر عدد ممكن منها، ووضع المص ? ورات تحت تص? رف العلماء، والعمل
على نشر الآثار الهامة من التراث العربي.
- فمهمة المعهد كانت عظيمة وواسعة وثقيلة. وإذا علمتم أن تراثنا العربي كان واسعًا جدًا.
وكان أجدادنا قد خلفوا من المؤلفات ملايين كثيرة. وهذه المخطوطات كانت في البلاد العرب?ية
والإِسلامية ثم انتقلت بأساليب مختلفة إلى مكتبات أوروبة وغيرها في العالم. تدركون سعة العمل الذي
يجب القيام به. ويزيد العمل صعوبة في البلاد العربية والإِسلامية، لأن المخطوطات فيها، على الأغلب،
ليس لها فهارس ?ي ? ر ? ج ? ع إليها للانتقاء منها. ثم إن انتقاء المخطوطات ينبغي أن يقوم به عالم محيط بالثقافة
الإِسلامية، أو أحد فروعها. ولم أجد في المعهد الجهاز العلمي الفني. كان فيه فقط سكرتير ومحاسب
ومص ? ور. وكان السكرتير يحمل شهادة ابتدائية فقط.
- ووجدت أن المعهد نفسه كان مضطربًا ليس له أنظمة ولا مجلس أعلى. وكانت موازنته ضئيلة
جدًا: خمسة آلاف جنيه مصري في العام تدفع منها الرواتب، فلا يبقى لإِرسال البعثات للتصوير إلاَّ
القليل. وكانت ?تبعِ?يته للإِدارة الثقافية تمنعه من العمل. ورغم ذلك كله تغّلبت على المصاعب.
- ووجد ? ت العون والتأكيد من الأمين العام يومذاك ح ? سونة باشا، ومن معاونه الدكتور رئيف
أبو اللمع، ومن رئيس اللجنة الثقافية الدكتور طه حسين. ففصلنا المعهد من الإِدارة الثقافية وجعلناه
?مستق ً لا، مرتبطًا بالأمين العام، ووضعنا أنظمة جديدة، وأنشأ ? ت مجلة اسمها (مجلة معهد المخطوطات
العربية) كانت أول مجّلة تصدر في العالم العربي والغربي، تبحث في المخطوطات العربية. وقد نالت شهرة
واسعة وأصبحت مرجعًا لا ?يستغنى عنه. واخترنا بعض المؤلفات الهامة في تراثنا لتحقيقها ونشرها
ككتاب (سير أعلام النبلاء) للحافظ الذهبي. واختر ? ت كتابًا هامًا جدًا هو (شرح كتاب ال ? س?ير الكبير)
للسرخسي. وأصل الكتاب أي (ال ? س?ير الكبير) أّلفه محمد بن الحسن الشيباني الفقيه الكبير، وهو أول
كتاب في العالم يتكّلم عن القانون الدولي العام. والأوروبيون يعتقدون أن عالمًا هولانديًا اسمه
(غروسيوس) هو الذي وضع القانون الدولي العام، في حين أن الإِمام محمد بن الحسن الشيباني المتوفى
سنة 189 هجرية/ 805 ميلادية، قد سبقه. فجمعت سب ? ع عشرة نسخة مخطوطة من مخطوطات
الكتاب وجد?تها في مكتبات العالم. وحققت أنا ا?لد الأول والثاني منه. وقد أدرك العلماء الألمان قيمة
الشيباني العلمية، ? س?بَقه إلى وضع علم القانون الدولي، فأسسوا جمعية اسمها "جمعية الشيباني للحقوق
الدولية". وان?تخِب الع ّ لامة القانوني المصري الدكتور عبد الحميد بدوي رئيسًا لها، وان?تخِ?ب ? ت أنا نائبًا
للرئيس.
- ومن المؤلفات التي بدأنا بتحقيقها كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري. وإلى جانب تحقيق
المخطوطات ونشرها، قمنا أنا وبعض موظفي المعهد، برحلات في بلاد العالم لتصوير المخطوطات فيها.
¥