الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم تعاظم عندهم كما تقدم آنفا ولو لم يكن للوجوب لم يتعاظموه ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قد أمرهم من قبل ثلاث مرات أمر تخيير ومع ذلك لم يتعاظموه فدل على أنهم فهموا من الأمر الوجوب وهو المقصود.
الثالث: أن في رواية في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
(صحيح) (. . . فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال: أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون قال الحكم كأنهم يترددون أحسب ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا). رواه مسلم والبيهقي وأحمد (6/ 175).
ففي غضبه صلى الله عليه وسلم دليل واضح على أن أمره كان للوجوب لا سيما وأن غضبه صلى الله عليه وسلم إنما كان لترددهم لا من أجل امتناعهم من تنفيذ الأمر وحاشاهم من ذلك ولذلك حلوا جميعا إلا من كان معه هدي كما يأتي في الفقرة (44).
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به:
(ألعامنا هذا أم لأبد الأبد؟) فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في أخرى وقال:
(دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لا بل لأبد أبد لا بل لأبد أبد). كما يأتي في الفقرة (24).
فهذا نص صريح على أن العمرة أصبحت جزءا من الحج لا يتجزأ وأن هذا الحكم ليس خاصا بالصحابة كما يظن البعض بل هو مستمر إلى الأبد. (1)
خامسا: أن الأمر لو لم يكن للوجوب لكفى أن ينفذه بعض الصحابة فكيف وقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ا يكتفي بأمر الناس بالفسخ أمرا عاما فهو تارة يأمر بذلك ابنته فاطمة رضي الله عنها كما يأتي (فقرة 48) وتارة يأمر به أزواجه كما في (الصحيحين) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل؟ قال: (إني لبدت رأسي. . .) الحديث. ولما جاء أبو موسى من اليمن حاجا قال له صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت)؟ قال: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل سقت من الهدي؟ قال: لا قال: (فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل. . .) الحديث.
______
(1) وقد رددنا على القائلين بالخصوصية في التعليق على الفقرة المشار إليها من الكتاب الصفحة (63)
فهل هذا الحرص الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمره بالفسخ إلى كل مكلف لا يدل على الوجوب؟ اللهم إن الوجوب ليثبت بأدنى من هذا
ولوضوح هذه الأدلة الدالة على وجوب الفسخ بله التمتع لم يسع المخالفين لها إلا التسليم بدلالتها ثم اختلفوا في الإجابة عنها فبعضهم ادعى خصوصية ذلك بالصحابة وقد عرفت بطلان ذلك مما سبق.
وبعضهم ادعى نسخه ولكنهم لم يستطيعوا أن يذكروا ولو دليلا واحدا يحسن ذكره والرد عليه اللهم إلا نهي عمر رضي الله عنه وكذا عثمان وابن الزبير كما في (الصحيحين) وغيرهما.
والجواب من وجوه:
الأول: أن الذين يحتجون بهذا النهي عن المتعة لا يقولون به لأن من مذهبهم جوازها فما كان جوابهم عنه فهو جوابنا.
الثاني: أن هذا النهي قد أنكره جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مهم علي وعمران بن حصين وابن عباس وغيرهم.
الثالث: أنه رأي مخالف للكتاب فضلا عن السنة قال الله تعالى: (فمن تمتع بالعمر إلى الحج فما استيسر من الهدي) البقرة: 196. وقد أشار إلى هذا المعنى عمران بن حصين رضي الله عنه بقوله:
(صحيح) (قال تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن (وفي رواية: نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات) قال رجل برأيه بعد ما شاء). رواه مسلم.
وقد صرح عمر رضي الله عنه بمشروعية التمتع وأن نهيه عنه أو كراهته له إنما هو رأي رآه لعلة بدت له فقال:
(صحيح) (قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن (1) في الأراك (2) ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم) رواه مسلم وأحمد.
ومن الأمور التي تستلفت نظر الباحث أن هذه العلة التي
______
(1) أي ملمين بنسائهم.
¥