تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ورسلُه وجميع خلقه عليه كما عَرَّفَنَا بالله وهَدانا إليه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فإن الله جل ثناؤُه، وتقدست أَسماؤُه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته، ويجمع قلبه على محبته شرح صدره لقَبول صفاته العلى وتلقيها من مِشْكَاةِ الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضى والتسليم، وأذعن له بالانقياد؛ فاستنار به قلبه واتسع له صدره وأَمتلأ به سروراً ومحبة، وعلم أَنه تعريفٌ من تعريفات الله تعالى تَعرَّفَ به إليه على لسان رسوله، فأَنزلَ تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أَعظمَ ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء أَشدَّ ما كان إليه حاجة؛ فاشتد بها فرحه، وعظُم بها غناه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه؛ فجال من المعرفة في ميادينها، وأَسامَ عين بصيرته في رياضها وبساتينها؛ لتيقنه بأن شرف العلم تابعٌ لشرف معلومه، ولا معلوم أجل وأعظم ممن هذه صفتُه وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ وأَن شرفه أَيضاً بحسب الحاجة إليه. وليست حاجة الأرواح قَطُّ إلى شيء أَعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها ومحبته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأَسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أَعرف وله أَطلب وإِليه أَقرب، وكلما كان لها أَنكر كَان بالله أَجهل وإِليه أَكره ومنه أَبعَد. والله يُنزل العبد من نفسه حيث ينزُله العبد من نفسه؛ فمن كان لذكر أَسمائه وصفاته مبغضاً وعنها نافراً ومنفِّراً فالله له أَشد بغضاً، وعنه أعظم إعراضاً، وله أَكبر مقتاً؛ حتى تعودَ القلوب على قلبين:

قلب ذكرُ الصفات والأسماء قُوتُه وحياته، ونعيمه وقُرَّةُ عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها لاستغاث: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فلسان حاله يقول:

يُرَاد مِنَ القلبِ نسيانُكم وتَأْبى الطِّباعُ على النَّاقِلِ

ويقول:

وإذا تَقَاضَيت الفُؤاد تناسياً أَلفَيْت أَحْشَائي بِذاك شِحَاحا

ويقول:

إذا مرضنا تَداوَينَا بذِكْرِكُمُ فنترك الذِّكرَ أحياناً فَنَنْتَكِسُ

ومن المُحال أن يَذكرَ القلبُ مَن هو محارِبٌ لصفاتِه، نافرٌ من سماعها، مُعْرِضٌ بكُلِّيَّته عنها، زاعمٌ أن السلامة في ذلك، كَلاَّ والله إن هو إلا الجهالة والخذلان والإعراض عن العزيز الرحيم، فليس القلب الصحيح قط إلى شيء أَشوق منه إلى معرفة ربه تعالى وصفاته وأَفعاله وأَسمائه، ولا أَفرح بشيء قَطُّ كفرحه بذلك. وكفى بالعبد خذلاناً أن يضرب على قلبه سُرَادق الإعراض عنها والنفرة والتنفير، والاشتغال بما لو كان حقاً لم ينفع إلا بعد معرفة الله تعالى، والإيمان به وبصفاته وأسمائه.

والقلب الثاني: قلبٌ مضروبٌ بسياط الجهالة فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أنزلت عليه مسدود. قد قَمَّشَ شُبَهَاً من الكلام الباطل، وارتوى من ماء آجِنٍ غيرِ طائل، تَعَِج منه آياتُ الصفاتِ وأحاديثُها إلى الله عجيجاً، وتَضِج منه إلى منزلها ضجيجاً، مما يسومها تحريفاً وتعطيلاً، ويُولي معانيها تحريفاً وتبديلاً. قد أعد لدفعها أنواعاً من العُدد، وهيأ لردها ضروباً من القوانين، وإذا دُعي إلى تحكيمها أبى واستكبر وقال: تلك أدلة لفظية لا تفيد شيئاً من اليقين. قد أعد التأويل جُنة يتترس بها من مواقع سهام السنة والقرآن، وجعل إثبات صفات ذي الجلال تجسيماً وتشبيهاً تُصَدُّ به القلوب عن طريق العلم والإيمان. مُزْجى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء، لكنه مليء بالشكوك والشبه والجدال والمراء. خلع عليه الكلام الباطل خِلعة الجهل والتجهيل، فهو يتعثر في أذيال التكفير لأهل الحديث، والتبديع لهم والتضليل. قد طَاف على أبواب الآراء والمذاهب يتكفف أربابها فانثنى بأخسِّ المواهب والمطالب، عدل عن الأبواب العالية الكفيلة بنهاية المراد وغاية الإحسان؛ فابتُلي بالوقوف على الأبواب السافلة المليئة بالخيبة والحرمان. قد لبس حُلةً منسوجة من الجهل والتقليد والشُّبَه والعناد، فإذا بُذلت له النصيحة ودعي إلى الحق {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. فما أعظم المصيبة بهذا وأمثاله على الإيمان، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن، وما أحب جهاده بالقلب

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير