تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

بَلَىَ شَهِدْنَآ" [الأعراف: 172]؛ وهذا التصوير يبين تحقق الإيمان لو استخدم الإنسان أدوات العلم والفكر التي تميز بها عن الحيوان, وعند بيان محرمات الزواج مع التمييز بين الأبناء حقيقةً والأبناء بالتبني في قوله تعالى: "وَحَلَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَلابِكُمْ" [النساء:23] , وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهور وموضع خروجها على طريق هجرتها!.

(ثالثاً) هل الوصف بالإخراج والإرجاع يخص الإنسان أم الماء؟:

يتعلق السياق بالإنسان ذكوراً وإناثاً, وإليه يُوَجَّه الحديث بدلالة الاستهلال: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ"، وفيه استدلال بالأصل علي غفلة الناكر للبعث, وذلك لمجيء التعبير بالغيبة إعراضاً مما يفيد أن المراد من جنس الإنسان من كَذَّب حديث القرآن وأنكر قدرة الخالق وتشكك في البعث خاصة؛ بدلالة التذييل "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ" والظرف الذي يتم فيه إرجاع الإنسان حياً "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ" وهو يوم الحساب, ودل فعل (الخلق) على ضرورة وجود الخالق, واستشهاداً بالنقلة الواسعة على الاقتدار قدمت البينة بالإنسان الشاخص متكامل البناء, وأفادت (مِن) في (مِمَّ) الابتداء وأفادت (ما) إبهام ما عادت إليه بياناً لضآلة الأصل إلى حد الخفاء, والاستدلال بقوله "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ" يتوغل أكثر نحو ماضي الإنسان ويدل على مرحلة أسبق ذات ابتداء أدق ولها نفس مزية النقلة الهائلة, وفعل (الإخراج) يفيد الانتقال ويجعل (من) لابتداء انفصال وتميز عضو الإنجاب على طريق الهجرة, ويتعلق السياق إذاً بوصف مرحلة تتكون فيها أعضاء تماثل الصلب والترائب وتختص بالإنجاب وليس مجرد بيان لمصدر الماء, إنها ولا شك بداية أبعد في تاريخ الإنسان تماثل في البعد النقلة الكبيرة من قطرة من سائل كالماء لا بشرية فيه إلى إنسان مفكر, وتلمس في كلام الأعلام – رحمهم الله – أن النقلة الأبعد منذ الابتداء الأول بلوغاً إلى الإنسان لا إلى الماء فحسب أعظم في الاستدلال على البعث لذا قصروا نسبة الابتداء على الإنسان, وتعبير القرطبي: "أول أمره وسنته الأولى" (17)، , وتعبير ابن الجوزي: "أول حاله" (18)، وفي قوله تعالى: "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ"؛ الضمير في "إِنّهُ" يعود على فاعل غير مذكور إعلاماً بأن فعله المتجسد في ذلك الإنسان الشاخص يغني عن الدلالة عليه باسمه أو صفته, تقديره (الله الخالق القادر) بدلالة اسم الفاعل الدال على لزوم الصفة "لَقَادِرٌ" والمؤكد للشاك بأداتين (اللام) و (إن) , بالإضافة إلى الفعل المبني للمجهول "خُلِقَ" العائد قطعاً إلى "الإِنسَانُ"، والمعنى يتعلق إذاً بالخالق والمخلوق أما الماء فمرحلة عابرة, ولذا يقصر السياق عود الضمائر إلى جنس الإنسان في التعابير "مِمّ خُلِقَ" و "خُلِقَ" و "رَجْعِهِ" و "فَمَا لَه" والفعل "يَخْرُجُ" وبذلك يتسع الوصف للذكر والأنثى, وفي كليهما تنشأ بالفعل أعضاء إنتاج الذرية مع الكليتين من بين أصول العمود الفقري والضلوع في الجهتين.

قال ابن عاشور: ضمي "إِنّهُ" عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر مُعاد ولكن بناء الفعل للمجهول في قوله "خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ" يؤذن بأن الخالق معروف لا يحتاج إلى ذكر اسمه وأسند الرجع إلى ضميره .. لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك, وضمير "رَجْعِهِ" عائد إلى "الإِنسَانُ" ... و "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ" متعلق برجعه أي يرجعه يوم القيامة, والسرائر جمع سريرة وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وعقائده .. ولما كان بلو السرائر مؤذنا بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ" مشعرا بالمؤاخذة .. فرَّع عليه قوله "فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ" , فالضمير عائد على الإنسان والمقصود المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد, أي فما للإنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه (19).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير