وعلى الرغم من حاجز اللغة بيننا وبينه فقد قام مترجمه هاشم صالح مشكورا بنقل كتبه إلى لغة الضاد وإن كان هاشم صالح شرقيا لا يخلو من عقد ضد الإسلام على خلاف أركون الذي سار على النصيحة الذهبية لإبراهيم بن سيار النظام رحمه الله (وتروى أيضا لأبي يوسف القاضي رحمه الله):"إنّ العِلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلَّك".
نعزّي أسرة الأستاذ الكبير بوفاته ونعزي الشعب الجزائري والإنسانية بهذا المصاب الجلل
في مثل أركون تصحّ مقوله الشاعر الإيطالي (لا يوجّد شِعرٌ لكل الناس) فما يبدو لك رائعا قد يبدو لغيرك تافها
أركون لا يكتب للعرب ولا يُخرج النظام التعليمي العربي بصورته الراهنة من يقدر أن يشارك أركون في التفكير في موضوعاته.
ولما كانت القراءة حوارا بين المؤلف والقارئ فليس في مخرجات التعليم العربي الحالي ما يمهد أرضية مناسبة لقراءة أركون.
لكن ما أشك أن أركون في موكب الخالدين وأن كتبه ستُقرأ على طول القرن.
بعد رحيل الأستاذين الجليلين صاحبي أكبر فضل على الأمة المغفور له محمد عابد الجابري والمغفور له محمد أركون أصبح في جدار الثقافة العربية الإسلامية ثلمة نسأل الله تعالى أن يسدّها سريعا، وما ذلك على الله بعزيز.
بسبب عيشه في الغرب وانشغاله بهموم الثقافة والفكر بين الفرنسيين لم يتأثر بما هو موجود على الساحة العربية كما حصل للأستاذ الجابري. ولهذا ظلت كتب أركون للخاصة، على حين أن الأستاذ الجابري وقد نشأ في أحضان الفلسفة قد تحفز أن يدخل إلى الدراسات التفسيرية في مراحله الأخيرة بقصد تقريبها إلى الأجيال. وبرغم أنه كشف عن جوانب قصوره للمتخصصين الذين جاءوا من المؤسسات الكلاسيكية (المساجد والكتاتيب) إلا أن حدسه (الجابري) أن كثيرا من القراء يحتاجون مثل كتابه وطريقته أمر لا يسلَّم خلافُه لمخالفيه. وإن كان المرض قد أظهر أثره في كتابات الجابري في آخر عامين، يعرف ذلك متابعو موقعه ومقالاته.
وهذا النوع من الأساتذة عالميون يعرف أقدارهم نظراؤهم من أهل الدراسات الأكاديمية في الجامعات العالمية المحترمة. ولا يغض من أقدارهم ما نراه فيما يسمى بالمنتديات الإسلامية فقديما قالوا من جهل شيئا عاداه، ومن أمثالنا الدارجة من لا يعرف الصقر يشويه.
شخصيا، وكل رأي هو شخصي في النهاية، وهذا لا يتناقض مع قول بوبر إن من المسلم به في فلسفة العلم المعاصرة (أن كل حقيقة موضوعية نسبية وكل حقيقة مطلقة ذاتية والعكس صحيح) أرى أن هذين الرجلين هما أعظم من قدم نفعا علميا لأمة الإسلام في الثلاثين سنة الأخيرة.
ولا نتفجع كثيرا على موتهما لأنهما قد أديا ما يقدر إنسان واحد أن يقوم به من رسالة العلم الخالدة. وإن كان مصابنا بهما جللا ولا ريب. ونسأل الله تعالى أن يهيء لأمة الإسلام من يكمل مسيرتهما ويبني على ما أسساه وحققاه من صبغ للأفكار ونظر إلى ثقافة أنتجها المسلمون منذ أكثر من ألف سنة بمنظور العقل الإنساني العلمي المعاصر.
ولما كان لين وايت (الابن) قد قال / إن الماضي غير حاضر، إنه تفكيرنا الحاضر في ما مضى وإنه يتغير بسرعة لا يصدقها العقل هي سرعة تغير تفكيرنا، كان ما قدمه هذان الأستاذان الكبيران للثقافة العربية ما قربها إلى العقل المعاصر وفتح نوافذ لكثير من الدارسين للولوج فيها.
لقد أنقذ هذان الأستاذان الجليلان الدارسين للثقافة الإسلامية من كثير من سوء الفهوم والإسقاطات على التاريخ (الفهم بمفهوم متأخر) وأزالا الأتربة وغبار الزمن عن كثير من الموضوعات ذات الخطر في الثقافة العربية.
في الختام لا نقول إلا ما يرضي ربنا، ونسأل الله تعالى لهما الرحمة والمغفرة.
ــــــــــــــــــ
*ملاحظة هامشية يرى بعض أصحابنا أن كتب أركون تؤدي إلى العدمية، وتُضعف الإيمان، وهذا سببه أن (العقل يساوي صفرا في النهاية) لأنه يدور بين جنبات الواقع. وهذا بالضبط سبب قول برتراند رسل إن العقل والرياضيات والمنطق شيء واحد، ولكن لا يجوز اغتيال العقل أو محاربته من باب سد الذرائع، يكفي القول إن من الكتب ما هو للخاصة لا للعامة، حتى وإن خشينا من العيب الأخلاقي الكائن في التعالي المضمر، نعوذ بالله من الخذلان، وهذا يسوغ نقد أركون نقدا علميا وحتى تفنيد أقواله وإدحاض حججه أحيانا، لكن الرفض من الخارج والتشكيك في نية أستاذ كبير عيب فكري وأحيانا أخلاقي ولا ريب. وهناك
¥