ينتقل أركون بعد ذلك إلى تقديم رؤيته النقدية للموقف الذي يقدمه الخطاب الديني فيقول: «الخطاب الديني-وهنا تكمن خصوصيته- يتميز بتجديد الغائية والهدف النهائي. فالرجل المؤمن يقول ما معناه: هناك غائية مقصد أعلى لكل ما أفعله؛ فأنا سوف أبعث يوماً ما من القبر، وأواجه ربي، وستكون بعدئذ حياة أبدية لانهاية لها بعد أن أُحاسب على ما فعلته في هذه الحياة الدنيا، هذه الرؤيا الدينية سيطرت على البشرية الأوروبية طوال القرون الوسطى المتتابعة ... وهي لا تزال مسيطرة على العديد من المجتمعات البشرية حتى الآن ....
هذه الرؤية تعتبر تصورية رمزية بالنسبة للإنسان الحديث، ولكنها تشكل حقيقة واقعة بالنسبة للمؤمن (بالمعنى التقليدي الصارم للكلمة). هذا ليس مجازاً بالنسبة له ... ».
وإلى هنا ينتهي أركون من عرض الموقفين، وقبل أن أستكمل حواره لنرى موقف أركون من الغايات البديلة، فإن هذه الرؤية التي يتحدث فيها أركون عن رؤية الخطاب الديني هي ليست رؤية مضافة للنص وفقاً لقراءة أصحاب الخطاب الديني، وليس بالإمكان في حالة كهذه الفصل بين الخطاب والدين نفسه، فالنص القرآني هنا لا يساعد على هذا الفصل الذي يقيمه أركون، فهو يبين بكل وضوح أن كل ما يفعله الإنسان له غاية ونهاية ومآل سيُحاسب عليه مهما دقت وصغرت فيقول: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه). [الزلزلة:7،8]
كما أن البحث عن هذه الغائية والهدف النهائي لم يكن مسيطراً على المجتمعات الأوربية وحسب، بل هي فكرة موجودة حتى في الأمم التي هي أسبق من هذه المجتمعات حيث يقول الله سبحانه عن الغاية النهائية على لسان واحد من أصحاب تلك الأمم: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا). [الكهف:36]
وهذه القضية بالنسبة للمؤمن لا تعتبر مجازية، لا لأن له موقفاً سلبياً من المجاز، ولكن لأن القضية نفسها لا تحتمل ذلك.
وكيف تحتمل المجاز والله سبحانه هو الذي يدعو إلى المسابقة لهذه القضية النهائية فيقول:
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم). [الحديد:21].
(وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم). [المزَّمل:20].
ويقول كذلك: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين). [النحل:30].
وكيف تحتمل المجاز وهو سبحانه يجعل أحد معايير الثناء على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أنهم يبتغون هذه الغايات النهائية فيقول:
(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)؟!
ثم يختم الآية السابقة ببيان أنه سيحقق لهم هذه الرغبة النهائية فيقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). [الفتح:29].
ويجعل أحد معايير الصدق هو الاتجاه نحو هذه الغايات فيقول: (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون). [الحشر:8].
ويسلي نبيه عمّا يعانيه من عصيان قومه بمثل هذه الغايات النهائية فيقول: (تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا). [الفرقان:10،11].
إن تصرف هذه النصوص في سياقات شتى ومختلفة تبين أن هذه القضية تجاوزت مسألة المجاز إلى مسألة القطع في عدم المجاز، وإن هذه النصوص السابقة وغيرها الكثير تبين أن الدين هو الذي يقدم نفسه كذلك، وليس الخطاب الديني هو الذي يسعى لتطويع النص ليؤكد هذه الحقيقة.
¥