نعود لاستكمال حوار أركون والذي يظهر فيه أنه لا يميل لأحد الموقفين السابقين (موقف الإنسان الحديث وموقف المؤمن التقليدي)، لكنه لم يُظهر أين موقعه من هذه القضية؟ ولذلك فهو يستمر في كلامه ليحدد موقعه فيقول: «بالطبع فأنا لا أهدف إلى إعادة هذا التصور من جديد، وإقناع المحدثين الأوربيين بالعودة إليه! هذا مستحيل وحنين ماضوي لا جدوى منه. ما مضى لن يعود. ويفضل أن تكون أبصارنا متركزة على الحاضر وإرهاصات المستقبل.
ما نريده الآن، ما أريد أكتشفه من خلال الكتاب (=الخطاب القرآني والفكر العلمي) هو معرفة الشيء الذي يمكن أن يحل محل الغائية التقليدية في خضم حياتنا المادية؟ ما هي البدائل؟ ... ».
انتهى جواب أركون حول هذه القضية بنهاية لا تعطي جواباً حول هذا التساؤل.
ولما شعر هاشم صالح أنه لم يتحصل على جواب، أعاد عليه الخيار الذي قدّمه له في بداية سؤاله السابق، وأنه ربما يكون هو أقصى بديل ممكن، فيعيد عليه نفس البديل فيقول:
«قلت لك إنه الفن والاستمتاع بالحياة إلى أقصى حدّ ممكن».
لكن أركون يُصِّر على أن هذا الاستمتاع بالحياة لا يمكن أن يكون بديلاً صالحاً، ويبدي تبريره العلمي المنطقي لذلك فيقول:
«الفن يستنفد غائيته في المتعة التي يحدثها في النفس.
فعندما أتأمل في لوحة فنية أو أشاهد فيلماً سينمائياً أو أستمع إلى قطعة موسيقية فإني أستمتع بذلك ولاشك، ولكني لا أرى شيئاً آخر وراء هذه المتعة، ولا أعرف فيما إذا كان الفن يوجهني باتجاه ما أو يحدّد لي الهدف».
إلى هنا يقف جواب أركون مرة أخرى، لكن بغير جواب، صحيح أنه نقد فكرة الغائية فيما يتعلق بالفن والاستمتاع بالحياة، لكن السؤال المركزي لا يزال معلقاً يبحث عن جواب.
وهذا ما جعل صالح لا يتردّد في إعادة السؤال بطريقة أخرى وأكثر مباشرة فيقول: «وإذن فما هو البديل؟ وإلى أين وصلت؟».
أمام هذا السؤال الصريح لا يملك أركون إلاّ أن يقدم جواباً مباشراً لذلك فيقول:
«حتى الآن لا أزال في مرحلة البحث، ليس عندي بديل جاهز أقدمه.
وهنا تكمن في رأيي أزمة الإنسان اليوم.
هنا تكمن المعضلة الكبرى والأمر المحير».
أركون إذاً يؤكد أنه لا يملك بديلاً عن الغائية التي يطرحها الخطاب الديني.
وربما يظن القارئ أن القضية انتهت بمجرد ذكر أركون لهذا الجواب.
لكن هاشم صالح يدرك أن ثمة موقفاً فلسفياً كبيراً سيؤدي إليه هذا الجواب .. فهو سيؤدي إلى العدمية كما يراها تيار ما بعد الحداثة كنيتشه وغيره ... ولذلك يبادره صالح بالحديث فيقول:
«وهذا ما يسبب العدمية أحياناً، أو بالأحرى هذا ما سبب العدمية التي تحدث عنها نيتشه في القرن التاسع عشر، وربما كانت السبب الذي أودى به ... ».
هذا الكلام جعل أركون أمام فكرة فلسفية متطرفة، وكثيراً ما يحاول أركون التهرب من نسبتها إليه تارة، ومحاولة تلطيفها تارة أخرى، الأمر الذي جعل أركون يبادر في التبري من هذا الموقف العدمي.
وأدعو القارئ أن يلاحظ معي طبيعة الخطاب الذي سيقدمه أركون عن هذه القضية، سيتحول الخطاب من جواب علمي عن مدى ارتباط رأي أركون بالنظرية العدمية إلى جواب فيه قدر من الذاتية المفرغة من جوهرها العلمي حيث بدأ أركون يتحدث فيها عن نفسه فيقول:
«لا. بالنسبة لي لا يسبب أي عدمية.
وليس عندي أي إحساس بالعدمية كما شاع في أوساط بعض المفكرين الأوربيين.
أنا أرفض العدمية كحل.
وعلى العكس فإن العمل الذي أقوم به في المجابهة والمقابلة بين الخطاب الديني وبين خطابات العلم الحديث يجعلني دائماً في حالة التأهب والاستعداد والأمل.
وهذه المجابهة تجعل الروح دائماً متحركة ومترقبة لشيء ما».
إلى هنا و أركون لم يقدم جواباً علمياً حول كلام صالح، كل ما في هذا الكلام تسجيل تجربة ذاتية، أنه لا يشعر ولا يحس بالعدمية، وبالتأكيد أن السائل لا يريد البحث عن الإحساس والشعور الداخلي بقدر ما يريد جواباً علمياً مقنعاً.
وكذلك بالنسبة للموقف من العدمية، فهو يسجل موقفاً اعتراضياً على العدمية فقط، دونما بيان لوجه المفارقة بين موقفه السابق في البحث عن غائية جديدة وبين الموقف العدمي.
واللافت في الأمر أن أركون يختم عبارته السابقة بعبارة موغلة عدمية ... فهو يبحث ويتحرك ويترقب لشيء (ما).
ولكن ما هو هذا الشيء؟
لا جواب ... وهنا تكمن العدمية التي ينفيها أركون.
¥