إذاً لا يكفي أركون أن ينفي العدمية عن نفسه ما لم يقدم لذلك جواباً علمياً، وأركون ممن يتكرر عنده النزوع نحو الأجوبة الذاتية، وهذا ما دعا علي حرب أن يقول: «ليس من المهم ما يصرح به هذا الباحث الناقد، وإنما المهم منطق بحثه وبنية تفكيره. ليس المهم ما يقوله عن نفسه أو ما يعترف به، بل المهم معنى أقواله، والأهم ما يحجبه ويسكت عنه» [نقد النص 55].
يواصل أركون جوابه السابق بما يؤكد أنه يفر من العدمية إليها فيقول:
«وإذا كان هناك شيء ما يستطيع أن يحل محلّ الأخرويات التقليدية التي ذكرتها، فإنه توتر الروح أو تطلعها المستمر نحو معرفة أكثر اتساعاً وصحة ومطابقة للواقع.
وهذا التوتر الروحي أو الحيوية الداخلية يشبه ما كان قدماء المسلمين يدعونه بالعشق.
العشق هو حيوية الروح والكينونة، هو الرغبة الأبدية، الرغبة في الحب واليقين والخلود»
ربما يتصور أركون وهو يقدم هذا الجواب أنه جواب مغاير للجواب العدمي ... لكن كل من يعرف الأدبيات العدمية يعرف أن أركون في كلامه السابق لم يغادرها ...
العدمية و التوتر المستمر نحو غاية لا يدري الإنسان ما هي ... هما وجهان لفكرة واحدة.
ومن المهم أن ندرك أن العشق والرغبة نحو الحب واليقين والخلود ... لا تخرج الإنسان من موقفه العدمي ... لأن القضية ليست في الرغبة ... لكنها في تحقق تلك الرغبة على أرض الواقع؟
يعود أركون بعد كلامه الذاتي السابق ليخرج نتيجة من خلال مقدمات لا تساعد على صحتها، وهو يشعر أنه استطاع أن يجيب عن إشكالية العدمية فيقول:
«وبالتالي، فأنا محصن ضد العدمية جيداً.
وعلى عكس الكثير من المثقفين الأوروبيين فإني لم أشعر في حياتي كلها بأي شعور عدمي أو أني مهدد بالعدمية والعبثية».
طبعاً السؤال المنطقي الذي يطرحه العقل الناقد لهذا الكلام ... لماذا قاد التفكير السابق من يتبناه من الأوربيين إلى العدمية ... بينما بقي أركون محصّناً ضدها؟
هل لأركون خصوصية ذاتية ضد الوقوع في العدمية؟
لننظر في جواب أركون حيث يقول:
«وسبب ذلك هو التجربة الدينية –وهنا تكمن إيجابيتها الأساسية- لم تتخل عني في أي يوم من الأيام.
لقد كانت ترافقني باستمرار ولا تزال».
تعبير أركون السابق حول التجربة الدينية يُشعر بأن ثمة تجربة مختلفة هي التي حصّنته من الوقوع في شراك العدمية ... ولكن يا ترى ما هي هذه التجربة؟
يمكننا معرفة ماهية هذه التجربة من كلامه الذي ساقه مباشرة بعد عبارته السابقة حيث يقول:
«إذن، فهناك غائية أجدها في هذه الحيوية، في هذا التوتر الروحي الموجّه نحو الكشف، نحو المزيد من المعرفة، والمزيد من الكمال والتمام.
وكل ما أفعله من محاضرات وبحوث مثير وخصب لدرجة أني لا أشعر بالفراغ.
هذه هي الحيوية، هذه هي الحياة.
وبالتالي فلا مكان عندي للعدمية».
يمكننا أن نقول إن حقيقة التجربة الدينية التي يشعر بها أركون تتلخص في (الشعور بالتوتّر الروحي)، و (الاتجاه نحو الاكتشاف) ...
اكتشاف ماذا؟ وفي أي اتجاه؟
لا جواب ...
وهذا ما يدعونا أن نكرر أن جواب أركون يمثل فقرات غير مترابطة، ولا يمكن بناء بعضها على بعض حتى نخرج بجواب منطقي مترابط.
لكننا في النهاية يمكن أن نقول إن الفرق بين العدمية في الخطاب الأركوني والخطاب النيتشوي هي أنها في الأولى عدمية ترتدي الحجاب بينما هي في الثانية عدمية سافرة.
وحتى أركون نفسه أراد أن يلبس عدمية نيتشه الحجاب عندما أوَّل عبارة نيتشه حول موت الله، وطالب بعدم التخوف منها، حيث يقول في معرض ثنائه على الحالة الفكرية الأوروبية: «وصل الأمر بمفكريهم إلى حدّ التحدث عن "موت الله" كما فعل نيتشه، ولكن حتى عبارة قاسية وصادمة للحساسية الجماعية لجماهير المؤمنين كهذه [إن الله قد مات] ينبغي أن لا تخيفنا كثيراً؛ لأنها لا تعني رفض الله أو رفض الإيمان بالله، وإنما تعني موت جينالوجيا معينة أو طريقة لغوية معينة للتعبير عن وجود الله، ما يموت ما هو تاريخي حقاً، هو تلك التصورات التي يشكلها البشر عبر مراحل تاريخية مختلفة عن الله». [قضايا في نقد العقل الديني 282].
«عبارة نيتشه لا تعني أن الله يموت بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما تعني أن هناك نمطاً محدداً من التقديس هو نمط القرون الوسطى قد مات وانهار». [الفكر الإسلامي نقد واجتهاد 266].
ولكن أركون على الرغم من تأويله لتلك العبارة إلاّ أنه تجاوز الدخول في تفاصيلها، ولو دخل فيها لظهر للقارئ: هل يستحق موقف نيتشه الخوف منه أم أنه لا يستحق ذلك؟
فهو لم يتحدث عن التصورات التاريخية التي أراد نيتشه محوها عن الإله واستبدالها بتصورات جديدة.
فهل التصور بأن الله رحيم بعباده هو تصور تاريخي ينبغي أن يتغير بتغير الزمن؟
نيتشه لا يرى تغير هذا المفهوم فحسب بل إن مفهوم الإله الرحيم «هو واحد من المفاهيم الأكثر فساداً حول الله» كما يقول في كتابه المسيح الدجال.
إذا كان كذلك فما هو المفهوم البديل الذي يقدمه نيتشه حول الإله؟
المفهوم الذي يقدمه هو الذي يقوله في كتابه عدو المسيح: «بأي شيء يفيد إله لا يعرف الغضب والانتقام والحسد والسخرية والمكر والعنف».
إذاً فكل القضية ترجع عند أركون إلى أنه لا يشعر بالعدمية، لكن هذا في الميدان العلمي لا يُعدّ جواباً علمياً فلا يلزم من عدم شعوره بذلك أن لا يعتقدها من حيث لا يشعر.
ربما كان السبب وراء غياب شعوره بذلك ما أشار إليه في كلامه السابق من حالة الصخب المستمر التي كانت تحيط بحياته والتي لم تترك له حالة من الفراغ، ولعله لو ابتعد قليلاً عن حالة الصخب التي كان يعيشها ... وأخذ فترة من الفراغ الذي يدعوه للتأمل لربما شعر أن الفكرة السابقة التي يحملها هي فكرة عدمية بامتياز، فإن أكثر لحظات المعاناة عند الشخصيات العدمية هي لحظات الفراغ، ولذلك فهم يهربون منه.
نهاية القول هل أركون في بحثه الوجودي يمثل وجهة النظر الدهرية كما يقول بعض نقاده كعلي حرب وغيره ... ؟
هذا ما أدع جوابه للقارئ الكريم الذي أمضى معي رحلة التأمل القصيرة في هذا الحوار بين أركون ومترجمه.
المصدر ( http://groups.google.com/group/azizkasem/browse_thread/thread/330b1ce16aab8654)
¥