ثم يمضي السياق مؤيدا أن المراد بذلك هو عذاب القبر، فيقول سبحانه بعد ذلك: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ] فما من شك في أن هذا المجيء، هو القدوم على الله تعالى بعد الموت، وهو الكائن في القبر، وبذلك يلتئم السياق، وتتسلسل الأحداث، وتكتمل الصورة في هذا المشهد، ملائكة يقبضون أرواح الظالمين، يعذبونهم ويوبخونهم، فيعاينوا واقعا ما علموه من قبل خبرا، فيقيم الله عليهم بذلك الحجة، ويقول في إظهار حجته عليهم بما عاينوه من واقع سبق لهم أن أنكروه: [وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ]
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
الكلام في النص الكريم صريح الدلالة على عذاب القبر، لأن الكلام فيه عن موقف الظالمين عندما يغمرهم الموت بقبض أرواحهم عن طريق ملك الموت، لتتولى ملائكة العذاب بعد ذلك تعذيبهم في قبورهم، كما يدل عليه قوله [بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ] وقوله: [الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ] في ضوء ما مر بيانه من أن هذا اليوم، هو يوم الموت، لأن السياق لا يلتئم صريحا إلا بهذا.
الدليل الثاني- قال تعالى:
[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ 50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ 51 كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ 52]
(سورة الأنفال: 50 – 52)
فالآيات تخاطب كل من يصلح للخطاب، مخبرة إياهم عن حال الكفار، عندما تقبض ملائكة الرحمن أرواحهم، بأنهم يضربونهم، ويزجرونهم، ويتوعدونهم بعذاب الحريق، يوم القيامة، الذي هو جزاؤهم اللائق بهم، لما قدموه من أعمال غير صالحة، ومبينة لهم أن حالهم في هذا كحال آل فرعون وغيرهم، الذين سبقوهم في الكفر فكان العذاب مصيرهم.
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
هذه الآيات صريحة في الدلالة على أن ما سبق ذكره من ضرب الملائكة لهم وتوعدهم بعذاب الحريق هو كائن عند الموت لقوله [إذ يتوفى ... ] وهذا معناه أن ما لحقهم من عذاب الضرب هو حال الوفاة، وهو ممتد أيضا متجدد لما أفاده التعبير بالمضارع في قوله تعالى: [يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ]
ثم تذكر الآيات أن ما حاق بهم، هو ما حاق بآل فرعون عندما كفروا بآيات الله. وإن مما حاق بآل فرعون، عذابهم في قبورهم، بعرضهم على النار غدوا وعشيا، كما جاء ذلك صريحا، في قوله تعالى: [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] (سورة غافر: 46)
وسيأتي الحديث عنها مفصلاً إن شاء الله.
الدليل الثالث - قال تعالى:
[وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]
(سورة التوبة: 101)
المعنى الإجمالي:
وردت هذه الآية في سياقٍ يُصنِّف الناس حسب أعمالهم، بقصد التمييز بين أهل الحق وأهل النفاق، لتبصير المؤمنين بأهل النفاق، بالكشف عن حالهم، وبيان أن الله مطلع على أحوالهم، ومجازيهم على أعمالهم.
ومن هذه الأصناف، هذا الصنف الذي تحدثت عنه هذه الآية، وهو صنف المنافقين الذين اتخذوا النفاق عادة لهم وسجية، فإنهم مهما حاولوا إخفاء نفاقهم عنك يا رسول الله، فإنه لا يخفى على الله نفاقهم، ولذا فقد توعدهم بالعذاب في كل المراحل التي يتقلبون فيها وبينها، أي: في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
¥