توضح هذه الآيات بطريق العموم الذي يفيده اسم الموصول "مَن" أن من يعرض عن ذكر الله، فإن له في القبر [6] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=17#_edn6) " معيشة ضنكا" أي عيشا ضيقا، يحشر على أثرها يوم القيامة أعمى، فيتساءل عن سبب ذلك وهو الذي كان حادّ البصر في الدنيا، فيجيبه المولى عز وجل: [قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى]
ثم تبين الآيات أن هذا هو جزء من عذاب من جاوز حدود الله، فأسرف في المعاصي، أما العذاب الأقسى والأبقى حيث لا ينقطع، فهو عذاب الآخرة، وقانا الله وجميع المسلمين إياه.
وجه الدلالة في النص الكريم على عذاب القبر:
تدل هذه الآية على أن المعرض عن ذكر الله سوف يعيش في قبره في ضيق وعدم سعة، وهو عذاب القبر، ولأن هذه العيشة الضنك لا يمكن أن يراد بها عذاب الآخرة، لأن الله عز وجل قال بعدها: [وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى]، ولأننا رجحنا بالأدلة أن ليس مرادا بها معيشة الحياة الدنيا منفردة، فقد لزم أن تكون هذه المعيشة الضنك في القبر.
ويرى بعض المفسرين أن تكون شاملة لكل الدور.
قال السعدي في تفسيره:
وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها. ([7] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=17#_edn7))
وقال الشنقيطي في كتابه اضواء البيان:
ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا. وطعام الضريع، والزقوم. فتكون معيشته ضنكا في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، والعياذ بالله تعالى [8] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=17#_edn8).
وهذا رأي لا نعارض قبوله لأنه محتمل، كما أنه شامل للرأي الذي ذكرناه، وهو أن المعيشة الضنك عذاب القبر.
الدليل السادس - قال تعالى:
[حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]
(سورة المؤمنون: 99، 100)
المعنى الإجمالي:
تحكي لنا الآيات حال العبد العاصي عند معاينة الموت وتيقنه، وهي الحالة التي يدرك العبد فيها أن صلته بالدنيا قد انقطعت بلا طمع في العودة إليها، وهو ما يعرف بوقت الغرغرة، لكن مع انقطاع طمعه وهول ما رأى وعاين ما ينتظره من عذاب الله، يدعو ربه أن يعيده إلى الدنيا ليتدارك ما فاته، فيقول: [رَبِّ ارْجِعُونِ] أي مُلِحًّا على الله في طلب الرجوع إلى الدنيا مكررا هذا الدعاء ([9] ( http://www.tafsir.net/vb/newthread.php?do=newthread&f=17#_edn9))، لكن هيهات هيهات، إذ يأتيه الجواب بالرفض، [كلا] ليخلد في حياته البرزخية إلى يوم البعث.
والبرزخ هو الحجاب الحاجز بين شيئين، ومرادٌ به هنا الحياة في القبر، لأنها حياة حاجزة ما بين الدنيا والآخرة.
وقوله [وَمِن وَرَائِهِم] أي: أمامهم، لأن كلمة وراء من ألفاظ الأضداد التي تأتي بمعنى وضده، فهي تحتمل الأمام والخلف، وهي هنا بمعنى الأمام، أي ويستقبلهم برزخ يمكثون فيه إلى يوم البعث.
ومن الآيات التي أتت فيها كلمة "وراء" بمعنى أمام، قوله تعالى: [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] (سورة الكهف: 79)
فقوله: [وَكَانَ وَرَاءهُم] أي أمامهم، إذ لو كان الملك خلفهم، فقد نجوا منه.
وجه الدلالة في النص على عذاب القبر:
في النص الكريم تصريح بأن عذاب القبر كائن واقع، وأن العبد العاصي يعاينه عند الموت وذلك من وجهين:
أحدهما- قوله تعالى: [حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] فهو نص في معاينة هذا العذاب، إذ لو أنه لم ير ما يسوؤه، وهو العذاب، فلماذا يدعو ربه: أن يعيده إلى الدار الدنيا، أي ليتدارك ما فاته من الطاعات التي تنجيه من هول ما عاين؟
¥