ليس عن هذا حديثي , ففي ظني أني لن آتي بجديد بعد تلك الكتابات الموفَّقة الجميلة , التي خطَّها أصحاب الفضيلة , وقد فنَّدت ولله الفضل كل شبهة تثار بهذا الخصوص , كما تناولوا بوضوح ماصاحب الكارثة من أخبار ملفَّقة أو مغلوطة , أو تمويهيَّة يراد منها طمس الحقيقة , و بلبلة الرأي , حتى لايُعرف صحيح الأمر من زيفه , إنما حديثي عن أبواق جعلت من نفسها نائحات مستأجرات , انبرت للدفاع عن ذلك القرار , ومناكفة العلماء الذين بينوا خطورته , لتقف في خندق المعطِّلين لتعليم كتاب الله , المتَّهمين لأهل القرآن بالتهم الباطلة والجائرة.
إنك لتعجب من أحدهم حين يفغر فاه , ويخطُّ بيده من الزور مايعلم هو قبل غيره أنه باطل , وأنه من التدليس والتلبيس , الذي ما أريد به وجه الله فيما يظهر للناس , وتراه لأجل ذلك يلوي أعناق النصوص , ويختار أسوأ الاختيارات , وينزل الخطاب على غير مراده , ويتكلَّف التأويلات , ويعتسف الأشياء اعتسافاً , بل ويزداد عجبك حين يظن أنه سيُقنِع الناس بما ادَّعاه من أنه يُشهد الله على صحة ماقاله , وجهل الكذاب الأفاك أننا نجد في كتاب الله ما نصُّه: (ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على مافي قلبه وهو ألَدُّ الخصام) , وهي وإن كانت نزلت في قوم , إلا أن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب , والمراد أن إشهاد هؤلاء وغيرهم لله تعالى , في أمرٍ لايحتاج القارىء معه إلى عناء في إثبات أن ما أشهدوا الله عليه كذب وتزوير ومغالطة , وهو مما يجب هتكه وفضحه , لأن الله لايشهد على جور وزور أولاً , وثانياً لأنهم يملكون من آلة التضليل والتلبيس مايمتنع مثله عن غيرهم من أهل الصدق , وهم بما ينشرونه من كذب وفجور , يؤخِّرون بلوغ الحقيقة الناصعة , وفي هذا من الغشِّ للأمة ملايخفى.
كنت أتمنى أن يبحث هؤلاء السفهاء عن حلول تُخرج حفظة كتاب الله من مأزق الحرمان , وتعين الأخ خالداً على النفس والهوى والشيطان , ولكن وياللأسف فهكذا هم أهل السوء , لايرحمون الناس , ولايقبلون برحمة الله أن تنزل على الناس كما يقال , فهم لم يسكتوا عن نصرة الحق , بل نطقوا بالباطل ودعمه , وعلت أصواتهم في الدفاع عن أمر أقسم بالله أن صاحبه لايسرُّه أن يلقى الله به , لأن الله طيب لايقبل إلا طيباً , ولكن هل يمكن أن نتصور منهم غير الأزِّ بالباطل , وتزيين القبيح , حتى إذا جاء العرض والحساب رأيت هؤلاء كما حكى الله تعالى: (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتقين) , وإن كانت حالهم في الدنيا كما قال الله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم مابين أيديهم وماخلفهم) , وكانوا يسخرون من أهل الإيمان والحق , وربما اتهموهم بالتهم الباطلة والزائفة , ونسبوهم للفتنة والتحريض , أو أن أعمالهم ليست لله , بل هي لمصالح ومكاسب شخصية أو حزبية , أو إلى غير ذلك من الفرى التي لايخفى المراد منها , ولكن أنَّى لهؤلاء إثباتها حين يقفون بين يدي الله تعالى فيسألهم وهو أعلم بهم: أين إثباتكم على أن من قام مدافعاً عن كتاب الله تعالى لم يقم غيرة ولاحمية , وإنما قام لمطامع دنيوية؟ , (ستكتب شهادتهم ويسألون) , (وقفوهم إنهم مسؤولون) , (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) , وحينها فلن ينفع العبد وقد جاء كما قال ربنا سبحانه: (وكلكم آتيه يوم القيامة فرداً) أن كتب نصرة لأمير أو وزير أو وجيه , ولن يعصمه من إنصاف الله تعالى للمظلوم , ومدافعته عن السوء ما ناله من هبات , أو ما تحقق له بعد ذلك من تقريب , هذا إن قُدِّر له أن ينال في الدنيا شيئاً من ذلك , فكيف إن فاتته الدنيا التي سعى إليها , وواجه في الأخرى عاقبة بغيه وجوره.
¥