{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [73 - 76].
بنو إسرائيل .. والدابة:
ومناسبة ذكر بني إسرائيل قبل ذكر الدابة يأتي من ناحيتين:
الأولى: أن «الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» هو اختلاف اليهود والنصارى في عيسى ابن مريم؛ كما ذكر الطبري في تفسير الآية، قال: «إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك يا محمد يقصّ على بني إسرائيل الحقّ، في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وذلك كالذي اختلفوا فيه من أمر عيسى، فقالت اليهود فيه ما قالت، وقالت النصارى فيه ما قالت، وتبرأ لاختلافهم فيه هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وغير ذلك من الأمور التي اختلفوا فيها، فقال جلّ ثناؤه لهم: إن هذا القرآن يقصّ عليكم الحق فيما اختلفتم فيه فاتبعوه، وأقرّوا لما فيه، فإنه يقص عليكم بالحقّ، ويهديكم إلى سبيل الرشاد» ([24]).
والثانية: أن الدابة ستخرج وقد تحقق القول الفصل في عبودية عيسى ابن مريم؛ حيث تخرج الدابة وهو عليه السلام يطوف بالكعبة .. ووصفُ النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى وهو يطوف بالبيت في آخر الزمان بقوله: «رأيت عيسى وهو يطوف بالبيت متكئا على عاتق رجل» ([25]) وفي نفس النص يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المسيح الدجال وهو يطوف بالبيت متكئًا بين رجلين، وفي ذلك إثباتٌ لافتقار عيسى والدجال، ونفيًا للألوهية التي ادَّعاها النصارى لعيسى، ونفيًا للألوهية التي ادعاها الدجال لنفسه ([26]).
حيث روي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى، وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري، وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر» ([27]).
وملاحظة أن الدابة ستخرج وعيسى يطوف بالبيت تستوجب التفسير؛ ذلك أن ترتيب ظهور الدابة هو بعد الدجال وعيسى ويأجوج ومأجوج، وأن ظهور الدابة مقترن بآخر العلامات ظهورًا وهي خروج الشمس من المغرب.
ومن هنا فإن ترتيب العلامات كما وردت في النصوص أمرٌ يتطلب المناقشة.
لأن النصوص الواردة في ترتيب العلامات جاءت بأساس منهجي، وليس لمجرد الترتيب الزمني.
وهناك عدة أبعاد في ترتيب العلامات:
منها: الترتيب من حيث الفرق بين وجود العلامة وفاعليتها.
لأن وقت وجود العلامة لا يعني أن يكون هو وقت فاعليتها في الواقع.
فالدجال موجود ولكن ليس له أي أثر كعلامة؛ بل إنه في حديث الجساسة يحبذ الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ([28]).
حيث إن هذا الظهور له دلالته وهي التقابل مع المسيح عيسى من حيث وجوده.
فكما أن عيسي موجود يكون الدجال موجود .. تحقق التقابل التام بينهما.
وكذلك يكون وجود الدابة وابتداء ظهورها مع وجود عيسى؛ ودلالته هي العلاقة المنهجية بينهما، ولكن فاعليتها كعلامة ستبدأ بعد عيسى والدجال ويأجوج ومأجوج.
وفي إطار الارتباط بين الحكمة من العلامة وترتيبها في النصوص جاء الإخبار عن الدابة والشمس بإطلاق دون ترتيب بينهما؛ لاعتبار اشتراكهما في علة واحدة وهي أنه لا ينفع نفس أيمانها إذا ظهرت إحدى هاتين العلامتين ..
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في علامة الشمس والدابة من حيث الترتيب: «وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا» ([29]).
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [77 - 79].
وتفسير خروج الدابة هو كفر الناس بالمرسلين وآياتهم؛ والرسالة هي خطاب الله للإنسان .. أما تفسير الكفر نفسه فهو عدم سماع الناس لهذا الخطاب.
فخرجت الدابة تكلم الناس؛ لأنهم لم يسمعوا كلام الأنبياء.
ومن هنا كان قول الله قبل ذكر الدابة مباشرة:
¥