تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإنما يحملُ مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمةِ أهلِ الحديث الجهابذة النقّاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولكلام غيرهِ لحال رواةِ الأحاديثِ ونَقَلةِ الأخبارِ ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وضبطهم وحفظهم؛ فإنَّ هؤلاءِ لهم نقدٌ خاصٌ في الحديثِ مختصونَ بمعرفتهِ كَمَا يختصُّ الصيرفيُّ الحاذقُ بمعرفةِ النقودِ جيدها ورديئها وخالصها ومشوبها، والجوهريُّ الحاذقُ في معرفةِ الجوهر بانتقاد الجواهر.

وكلٌّ من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عَنْ سَبَب معرفتهِ ولا يقيمُ عليه دليلاً لغيرهِ، وآيةُ ذلكَ أنَّه يُعرَضُ الحديث الواحد على جماعةٍ ممنْ يعلمُ هذا العلم فيتفقون على الجوابِ فيهِ مِنْ غيرِ مواطأة، وقد امتحن منهم غير هذا مرّة في زمنِ أبي زرعة وأبي حاتم فوجد الأمر على ذلكَ، فقال السائلُ: «أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهام»، قال الأعمشُ: «كان إبراهيمُ النخعيُّ صيرفياً في الحديثِ، كنتُ أسمعُ من الرجال فأعرض عليه ما سمعتهُ»، وقال عَمرو بنُ قيس: «ينبغي لصاحبِ الحديثِ أنْ يكونَ مثلَ الصيرفيّ الذي ينقد الدرهمَ الزائفَ والبهرج وكذا الحديث».

وقال الأوزاعيُّ: «كنا نسمعُ الحديثَ فنعرضه عَلى أصحابنا كما نعرضُ الدرهمَ الزائفَ على الصيارفة؛ فما عرفوا أخذنا وما أنكروا تركنا»، وقيل لعبدِ الرحمن بنِ مهدي: إنك تقولُ للشيءِ: هذا يصحُ، وهذا لم يثبتْ؛ فعمن تقولُ ذلكَ؟ فقالَ: أرأيتَ لو أتيتَ الناقدَ فأريته دراهمك فقال: هذا جيدٌ، وهذا بهرج، أكنتَ تسأله عَن ذلك أو تسلم الأمرَ إليهِ؟ قال: «لا بل كنتُ أسلمُ الأمرَ إليهِ، فقالَ: فهذا كذلك لطولِ المجادلةِ والمناظرةِ والخبرةِ، وقد رُوي نحو هذا المعنى عَن الإمامِ أحمد أيضاً وأنه قيل له: يا أبا عبد الله! تقولُ: هذا الحديثُ منكرٌ؛ فكيف علمتَ ولم تكتبْ الحديثَ كلَّه؟ قالَ: مثلنا كمثلِ ناقد العين لم تقع بيده العين كلها؛ فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيّد، أو أنه رديء، وقال ابنُ مهدي: «معرفةُ الحديثِ إلهام»، وقالَ: «إنكارنا الحديثَ عند الجهال كهانة». وقال أبو حاتم الرازي: «مثل معرفةِ الحديثِ كمثلِ فصّ ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم»، قال: «وكما لا يتهيأ للناقدِ أن يخبر بسبب نقدهِ؛ فكذلكَ نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذب، وأنّ هذا حديثٌ منكر إلا بما نعرفه، قال: «ويعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في المائية والصلابة علم أنه زجاج، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاماً يصلح مثل أن يكون كلام النبوة ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته. والله أعلم» (65).

وبكل حال؛ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعللِ الحديثِ أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً، وأوَّل من اشتهر في الكلام في نقد الحديث ابنِ سيرين، ثم خَلفه أيوب السختياني، وأخَذَ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عَنْ شعبة: يحيى القطان وابن مهدي، وأخذ عنهما: أحمدُ وعلي بنُ المديني وابنُ معين، وأخذ عنهم مثل: البخاريّ وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وكان أبو زرعةَ في زمانه يقول: «مَنْ قَالَ يفهم هذا - وما أعزّه - إلا رفعت هذا عَنْ واحد واثنين؛ فما أقلّ من تجد من يحسن هذا!»، ولما ماتَ أبو زرعة قال أبو حاتم: «ذهب الذي كان يحسن هذا المعنى، يعني أبا زرعة، أي ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا، وقيل له بعد موت أبي زرعة: يُعرَفُ اليوم واحد يَعرِف هذا؟ قال: لا، وجاءَ بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعُقيلي وابن عدي والدّارقُطنيّ، وقلّ مَن جَاء بعدهم مَنْ هو بارع في معرفة ذلكَ حتى قال أبو الفرج الجوزي في أول كتابه الموضوعات: «قلَّ من يفهم هذا بل عُدم»، والله أعلم» (66).

هذا ما تيسر كتابته؛ فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطانِ واللهُ منه بريء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ـــــــــــــــــــــ

(1) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص43).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير