تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

"العلم" –كما قدمنا –تيسيراً على الناس في سعيهم، لتحقيق مصالحهم في التعامل، وحفظ حقوقهم، فيجوز استصحاب الحكم السابق للحال الثابتة بدليلها في الزمن الماضي، والحكم باستمرار آثاره في الحاضر والمستقبل، بناء على ثبوته في الماضي، ما لم يقم دليل طارئ مؤثر في تغييره، وقطع استمراره.

ونحن إزاء هذه الآراء المتعارضة (10)، في "حجية" الاستصحاب، ينبغي ِأن نُجلِّيَ "الحقيقة" ناصعة البيان، مدعمة بالأدلة، لاتصال "الاستصحاب" –باعتباره منهجاً يفضي بالمجتهد إلى تمكينه من استمداد الحلول لوقائع لا تحصى –أقول: لاتصاله بمرونة الشريعة، واقتدارها على مجابهة الوقائع المتجددة بما المستقصي، يمكن الحكم على آراء الأصوليين المتضاربة، للوصول إلى "الحق العلمي" وهذا يقتضينا، أن نحدد "مفهوم الاستصحاب" بادئ ذي بدء، فنقول:

2 - تعريف الاستصحاب، لغةً، واصطلاحاً:

الاستصحاب لغة، طلب المصاحبة، واعتبارها، والمصاحبة ملحوظ فيها معنى "اللزوم (11) والمرافقة" يقال: استصحبت الكتاب، لازمته (12) ولم أفارقه، ومن هنا، قيل: "استصحبت الحال" وحكمها، إذا تمسكت بما كان قائماً في الماضي، كأنك جعلت تلك الحال، مصاحبة غير مفارقة، حتى الزمن الحاضر، بل والمستقبل.

وأما في اصطلاح الأصوليين، فمؤاده: أن ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤه في الزمن الآتي، وكلُّ ما كان فيما مضى، ولم يظنَّ عدمه، فهو "مظنون البقاء" (13).

هذا، وقد عرفه ابن القيم في موسوعته "إعلام الموقعين" (14) " بما فيه "تفصيل لصفة الحكم المستصحب" من حيث كونه "سلبياً" أو "إيجابياً" وهو ما أكده في مواضع عدة، حيث يقول: "الاستصحاب استدامة ما كان ثابتاً، ونفيُ ما كان منفياً" وإلى هذا المعنى أشار الخوارزمي أيضاً –فيما نقله عنه الشوكاني –من حيث كون الاستصحاب منهجاً علمياً تقوم به الحجة في الاستدلال، بناء على مراحل من النظر والبحث، يتحتم على المجتهد سلوكها، واجتيازها، شرطاً مسبقاً ليصح استدلاله بالاستصحاب، مع الإشارة أيضاً إلى "صفة الحكم المستصحَب" من النفي والإيجاب، حيث يقول: "وهو –أي الاستصحاب –آخر مدار الفتوى، فإن المفتي إذا سُئل عن حادثة، يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنة، ثم في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده، فيأخذ حكمها من استصحاب الحال، في النفي، والإثبات، فإن كان التردد (الشك) في زواله، فالأصل بقاؤه، وان كان التردد في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته (15) "

وتفصيل ذلك: أن الاستدلال بالاستصحاب، لا يصح، إذا عارضه دليل على حكم الحادثة، مستمد من المصادر الأربعة المذكورة آنفاً، لأنها أقوى في الدلالة، فتقدّم، وهذا معنى قولنا: ان الاستصحاب آخر الأدلة.

-هذا، ويدل التعريف الآنف، على أن التردد أو الشك –وهو ما استوى فيه طرفاً الوجود والعدم –في مبلغ إدراك المجتهد، بحيث يفقد معه إمكانية ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لكونهما مستويين في مبلغ ما ارتقى إليه المجتهد من إدراك، إذ الترجيح يفتقر إلى الدليل المرجح، وهو هنا منتف، أقول: لا يقوى التردد أو الشك على تغيير ما كان ثابتاً في الماضي، بخلاف "الظن" فإن مبلغ إدراك المجتهد لأحد الطرفين فيه أرجح من الآخر بالدليل وإلا ما كان ظناً.

وبناء على هذا، فإن "التردد" أو الشك، لا يقوى على تغيير ما كان ثابتاً في الماضي –نفياً أو إثباتاً –فيبقى الحكم على ما كان عليه، لسبب بسيط، هو أن احتمال التغيير –في إدراك المجتهد –مساو لاحتمال عدم التغيير، وليس ثمة من دليل يرجح أحد هذين الاحتمالين، ومتى استوى الاحتمالان في إدراك المجتهد –وهذا هو معنى التردد أو الشك المشار إليه في تعريف الخوارزمي –كان ترجيح أحدهما على الآخر "تحكُّماً" وهو ما لا يجوز المصير إليه بحال، لبطلانه في الشرع، فيحصل لدى المجتهد حينئذ "الظن بالبقاء" أثراً للظن بعدم المغيِّر لزوماً، فتبقى الحال على ما كانت عليه في الماضي، مستوجبة حكمها الذي شُرع لها ابتداء، ويستمر هذا الحكم في الزمن الحاضر، والمستقبل أيضاً، مستتبعاً كافة آثاره، لعدم طريان المغيِّر.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير