يرشدك إلى هذا، أن المحقيين من الأصوليين، أدخلوا "ظن البقاء" مقوِّماً أصيلاً لمفهوم الاستصحاب، بل جعلوه "جوهر مناطه" لأنه لازمٌ للظن بعدم الدليل المغير –كما ذكرنا –ترى هذا واضحاً في تعريف الكمال بن الهمام للاستصحاب، حيث يقول مانصه:
"الاستصحاب هو الحكم ظناً ببقاء أمر، تحقق سابقاً، ولم يُظن عدمُه، بعد تحققه، (16) فانظر كيف جعل "ظن البقاء" لازماً للظن بعدم الدليل الطارئ المغيِّر.
يؤكد هذا، المفهوم المخالف لعبارة الكمال، وهو أنه: "لو ظُنَّ البقاء" هو الذي ينبغي العمل به، لاستغنائه عن الدليل، بحكم الاستمرار، أثراً لأصل الوجود، كما قدمنا.
فتلخص، أن قوة استمرار الحكم السابق الثابت بدليله ابتداءً، للحالة التي كانت قائمة في الماضي هذه القوة –في الواقع –مقتضى أو أثر لازم لعين دليل وجود ذلك الحكم، أو ثبوته، ولا تفتقر قوةُ الاستمرار هذه إلى دليل جديد مستقلٍّ يثبتها، إذِ الأصل، أنَّ ما ثبت من حكم شرعي لحالة أو شيء في الماضي، بدليله، ولم يوجد ما يغيره، ظُنَّ بقاؤه واستمرارهُ لزوماً لذلك الدليل نفسه، بعد البحث والنظر والتحري عن المغيِّر، ولم يُظفر به، إذ لو وجد لنقل إلينا عادة (17)، وهذا الاستمرار اللزومي هو ما تقضي به سُنن الكائنات وطبائع الموجودات، والشرع لم يأت ضدّاً عليها. وتفصيل ذلك:
ان الأصل في الأحكام الشرعية – على ما بينا آنفاً –أنها إذا ما ثبتت وتحققت بأدلتها، بقيت واستمرت، لأن دليل وجودها، وتحققها ابتداء، وفيما مضى، يستلزم ظَنَّ بقائها، وديمومة سريان آثارها –حاضراً ومستقبلاً –ما دام لم يوجد المغيِّر بعد البحث والتحري. والظنُّ القويُّ، كافٍ في الاستدلال لإثبات أحكام المعاملات، ووجوب العمل بما تستتبع من آثار، شريطة أن يبذل المجتهد أقصى وسعه في البحث عن الدليل المغير، ولم يظفر به، فيحصل عندئذ الظن بعدم هذا الدليل، وهذا بدوره يستلزم الظن بالبقاء والاستمرار، كما بينَّا.
على أن"الظن" في هذا المقام من تشريع المعاملات –وأحكامها –كما بينَّا –يُفسَّر بمعنى "العلم" و"الإدراك" بل يُنزَّل منزلتَهُ، حتى إذا حصل "العلم بعدم الدليل" استلزم "العلم بالبقاء" ضرورة، فكان الاستدلال بالاستصحاب –وهو ظن البقاء –استدلالاً بالعلم بعدم الدليل، لا بعدم العلم بالدليل –كما قيل –وهذا التمييز الدقيق بين النوعين من الاستدلال، ينبغي أن يكون مَلحَظاً معتبراً في "حُجِّيَِّة" قوة استمرار الحكم، وديمومة استتباع آثاره الملزمة، بعد حدوثه وثبوته، على ما سيأتي تفصيل القول فيه.
وقصارى القول: أن "ديمومة" الحكم السابق وبقاءه –حاضراً ومستقبلاً –ثابتة بعين دليل وجوده، ابتداء في الماضي، باعتبارها أثراً لازماً له، فكانت قوة الاستمرار إذن مستمدة من عين الدليل الذي أوجد الحكم أولاً، لأن الدليل الدال على الملزوم، دال على لازمه، أصولياً، هذا معنى قول الأصوليين: إن ديمومة الحكم، واستمراره "مستغنيةٌ" عن الدليل الجديد المستقل لُيثبتَها، اكتفاء بالدليل الذي أوجد الحكم ابتداءً، وفي هذا المعنى يقول الإمام السرخسي: "وما ثبت، فهو باق، لاستغناء البقاء عن الدليل (18) " ويقول الآمدي في كتابه الاحكام، في هذا الصدد: " ... لأن ما تحقق وجوُدُه، أو عدمُهُ، في حالة من الأحوال، فإنه "يستلزم" ظن بقائه "والظنُّ حجةٌ متبعة في الشرعيات" (19) أي في أحكام المعاملات، دون العقائد.
هذا، ويلاحظ أنَّ الآمدي قد نوَّه بشأن الحكم العَدَمي "السلبي" فهو والحكم "الإيجابي الوجودي" في استمرار البقاء، سواء.
على أن عبارة الإمام السرخسي هذه، تدل بمفهومها المخالف، على أن نقيض "البقاء" –وهو الانقطاع وعدم الاستمرار –غير مستغنٍ عن الدليل، ليَثبُتَ هذا الانقطاع الطارئ. وكل ما كان مفتقراً إلى دليل يُثبته، فهو خلاف الأصل، فتعيَّن أن يكون "الأصل" أو القاعدة العامة، هو "البقاء والديمومة والاستمرار" لأنه مستغن عن الدليل، ومن أراد نقض هذا البقاء، فعليه بالدليل.
3 - إن ظن بقاء الحكم واستمراره –وهو الاستصحاب –باعتباره أثراً لازماً لعين دليل وجوده، كان أقوى من مجرد احتمال تغيُّره.
¥