تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض (وهو المعنى الذي أكده الإمام الشاطبي في عبارة موجزة جامعة: "ما جاءت الشريعة إلا لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم" وهذا هو الجانب العملي الذي يستند أساساً إلى أصل اعتقادي راسخ يتضمن عنصر التكليف أو الالتزام الذاتي (52).

وأما قول عمر –رضي الله عنه-:"كيف استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" أي بمقتضى صفة "الآدمية" التي تقتضي –بحكم الشرع- ما يؤصل المعنى الإسلامي الحقيقي للحرية في نفوسهم، على خلاف ما ألفوه، وذلك بالتكليف والمسؤولية وبالمعنى الإنساني في مفهومه، مما جاء به هذا الشرع الحنيف، إذ ليس الانسياق والانطلاق وراء الشهوات، أو سلائق الغرائز الأولية غير الموجهة –في نظر هذا الشرع- حرية، بل هي آفة البشرية، إذ ليس "الهوى" –في المفهوم القرآني- إلا إرسال النفس على عواهنها، تهالكاً على المال والجنس، دون ضبط ولا توجيه، وإلا فلا نزاع، أن الحقوق والحريات أساسها "الشرع" أو التكليف إجماعاً، بما ضمنها من معان جديدة خاصة، ناط بها مشروعيتها، وأقامها على عنصر الاعتقاد أيضاً، وقد كانت من قبل غير محددة المفهوم، ولا مقيدة التصرف، ولا مستبينة الغاية، تجري هكذا فوضى سليقية بدائية غريزية لا ترى فيها مظهراً لتشريع موجه، ولا في معانيها "قيماً" ترقى بها إلى مستوى المعقولية أو المعنى الإنساني الذي يليق بكرامة الآدمية "ولقد كرمنا بني آدم" تجد هذا واضحاً فيما نادت به الثورة الفرنسية من حقوق وحريات (53)، حيث أطلقتها، بل أفرغتها منا المعنى الاجتماعي والإنساني، لتملأها بمعنى الفردية أو الأثرة والأنانية المطلقة، مما يستلزم التجاهل التام لحق المجتمع، تطرفاً منها في تقديس الفرد وحقوقه.

ولقد تأثرت قوانين الدول الاستعمارية بهذه الفلسفة التي اعتبروها أساساً للحضارة، فانتقلت إلينا –بحكم الاستعمار- ميراثاً، حتى استقر في أذهاننا المفهوم الفردي المطلق، ولا سيما في الميدان الاقتصادي، وظننا أنها من تعاليم الإسلام، بفضل الغفلة عن حقائقه، وأصول تشريعه، أو بعامل نفسي من الإلف للعرف الساري في التعامل التقليدي، والحق أن تعاليم الكتاب والسنة، وآثار السلف الصالح، والموسوعات الأصولية والفقهية للمحققين من الأصوليين والفقهاء، كالإمام الشاطبي، والإمام مالك، والإمام الباجي، وأئمة الحنابلة، وفي مقدمتهم الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام القرافي، والإمام الكاساني –سلطان العلماء- كل أولئك وغيرهم –كما بينا- على خلاف ما تقضي به فلسفة الثورة الفرنسية والقوانين التي تأثرت بها، في مفهوم الحقوق والحريات، وبيان ذلك:

فلسفة الحريات العامة (54) في المذهب الفردي الذي تبنته الثورة الفرنسية تقوم أساساً على فكرة تقييد سلطة الحاكم، منعاً من العسف السياسي:

ابتدعت الفلسفة الفردية فكرة الحريات المطلقة ابتداعاً، كرد فعل للعسف السياسي يومئذ، ورأت في هذه الفكرة ضماناً كافياً لتقييد سلطة الحكم، ورأى أنصارها أن المعنى الفردي المطلق في مفهوم الحق، وإطلاق التصرف فيه، هو الذي ينهض بمفهوم "العدل" في اعتبارهم، مقاومة للاستبداد السياسي، أو بعبارة أخرى إن معنى الحرية قد تركز في معنى الإفلات من سلطة الحكم، فحسب (55)، وهو تدبير سياسي –كما ترى- وليس معنى فقهياً تشريعياً اجتماعياً متوازناً أو معقولاً، وما كان التشريع العادل يوماً، يعرف التطرف ليقاوم تطرفاً مثله، ولا ينبغي أن يكون للانفعال أو الهوى منزع في التشريع، لما يفضي إلى الغلو والظلم غالباً، وما لهذا أو لمثله أنزلت أو وضعت الشرائع بداهة!

هذا، والتطرف الذي أشرنا إليه منشؤه ما أصَّلوه هم من "مبدأ سلطان الإرادة المطلق" تدعيماً لفردية الفرد، وتقديساً لحقوقه، بإطلاق إرادته في التصرف، والإسلام لا يقدس الفرد، وإنما يحترم إنسانية الإنسان، كما يحترم حق الأمة أيضاً احتراماً يكفل صيانة مصالحها التي تربو على المصالح الفردية على استقلال، نفعاً وأثراً، لما يأتي تفصيله.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير